الروائي الإعلامي شريف عبدالوهاب يكتب: فردة حذاء


غابت الشمس خلف سحب رمادية كثيفة، كأنها تخنق ضوءها، تمنعه من احتضان الأرض. بدا النهار قاتمًا، مشحونًا بحزن دفين، وكأن الكون يئن تحت وطأة كآبته.
في محطة جامعة القاهرة للأتوبيس النهري، وقف الناس في صمت ثقيل، وكأن الجو قد انعكس على أرواحهم. بين الجمع، كانت فتاة صغيرة، جميلة، تقف في انتظار الأتوبيس، تخفي يدها في جيبها كما لو كانت تخفي سرًّا لا تريد للعالم أن يراه. على مقربة منها، جلس شابان على أريكة خشبية، يتحدثان بحماس، وأحدهما يلوّح بصحيفة تتصدرها صورة نتنياهو في هيئة ذئب متوحش.
قال الأول بحدة:
— "لو فتحوا لنا الحدود، سأذهب إليه وأمزقه! سأجعله يتذوق المعنى الحقيقي للإنسانية!"
ردّ صديقه بقلق:
— "لكن... ستذهب إليهم بلا سلاح؟"
ابتسم الشاب الطويل بثقة وقال:
— "لقد علمونا في الجيش كيف نحارب بلا سلاح!"
وصل الأتوبيس النهري، واندفع الركاب نحوه. تقدّمت الفتاة بخطوات هادئة ومدّت يدًا واحدة لتتشبث بالمقبض، لكن السائق، رجل ضخم بوجه متجهم وندبة عميقة تمتد على خده الأيسر، رمقها بنظرة ساخرة، وكأن ضعفها يثير في داخله لذة خفية. زمجر بصوت أجش:
— "حتى العاجزون يريدون الركوب! أمسكِ جيدًا مثل الآخرين!"
اهتزت الفتاة للحظة، كأن كلماته صفعتها أكثر من الريح الباردة التي داعبت وجهها. حاولت التمسك بيدها الواحدة، لكن جسدها النحيل تمايل، وبحركة خاطفة، دفعها السائق بمرفقه، فسقطت فردة حذائها في مياه النهر.
شهقت وهي تراقب الحذاء يطفو مبتعدًا، ثم أجهشت بالبكاء. نظر إليها السائق بابتسامة خبيثة وقال ساخرًا:
— "حذاؤك قرر أن يتركك! ربما أدرك أنكِ عبء مثله!"
ساد الصمت. رمق الركاب السائق بنظرات ممتعضة، لكنهم ظلّوا صامتين، كأن جبنهم أقوى من استنكارهم. أما الشاب الغاضب، فقد واصل حديثه مع صديقه، غير مكترث بما يحدث بجانبه:
— "يقتلون الأطفال، يقصفون المستشفيات، ونتنياهو يفتخر بذلك! لا محكمة العدل تهمه، ولا ضمير يردعه!"
لكنه، في لحظة ما، لاحظ الفتاة ودموعها، التفت إلى السائق وقال بازدراء:
— "أمثالك يذلون الضعفاء، لكنهم ينحنون أمام الأقوياء!"
قهقه السائق بتهكم:
— "أمثالي؟ وهل ستلقنني درسًا في الأخلاق؟"
حدّق فيه للحظة، ثم تمتم بصوت خافت لكنه مسموم:
— "أمثالك يصرخون كثيرًا، لكنهم لا يفعلون شيئًا..."
استدار نحو الفتاة، ونظر إليها ببرود:
— "توقفي عن البكاء، إنه مجرد حذاء، لم تفقدي قدمك أيضاً!"
تصلّب الشاب، نظر إلى الركاب، ثم صاح بغضب:
— "كيف تصمتون؟ ألا يؤلمكم هذا المشهد؟"
ألقى بالجريدة في النهر واندفع نحو الفتاة، أمسك بيدها وساعدها على الجلوس، لكنها ظلت تبكي وهي تحدّق بفردة حذائها التائهة على سطح الماء.
في تلك اللحظة، تحرك رجل مسن، أشار إلى السائق وقال بصرامة:
— "أحضر لها حذاءها الآن، وإلا..."
ضحك السائق باستهزاء:
— "وإلا ماذا؟ هل ستلقون بي في النهر؟"
لكن الركاب لم يتراجعوا. ازدادت النظرات إصرارًا، والوجوه اشتعلت بالغضب الصامت. شعر السائق بأن السيطرة بدأت تفلت من يديه، فالتقط عصا طويلة وبدأ يحاول انتشال فردة الحذاء. امتدت العصا نحوها، لكنه فقد توازنه للحظة، تمايل جسده الضخم، وحاول أن يمسك بالحافة، لكن قدمه زلّت... وسقط في مياه النيل.
شهق الجميع. بحثوا عنه، لكن الماء لم يظهر له أثر. مضت الساعات، وكأن النهر ابتلعه تمامًا.
على سطح الماء، طفت الجريدة التي كانت تحمل صورة نتنياهو للحظات، بجوار فردة الحذاء، ثم بدأت تغوص ببطء، تختفي في عمق النهر، بينما بقيت فردة الحذاء وحدها تطفو، تقاوم الغرق.
اندفع الشاب نحو قارب صغير مربوط على ضفة النهر، قفز داخله وأمسك بالمجدافين، أخذ يجدّف بقوة حتى وصل إلى فردة الحذاء. مدّ يده والتقطها بحرص، ثم عاد إلى الفتاة، وانحنى أمامها بابتسامة دافئة، وقال:
— "ها هي، لم تضع منك!"
رفعت الفتاة عينيها، نظرت إليه بامتنان، ثم أمسكت بالحذاء بيدها السليمة وضغطته إلى صدرها، وكأنها تستعيد شيئًا أثمن من مجرد فردة حذاء. لم تستقل الأتوبيس النهري، بل أخذت تسير حتى وصلت إلى تمثال "نهضة مصر".
هناك، وقفت للحظة، ثم أخرجت يدها من جيبها، مكشوفة كما هي، بلا خوف ولا خجل، ونظرت إلى التمثال قائلة بصوت خافت لكنه ممتلئ بالعزم:
— "لن أخجل من يدي مرة أخرى."
وفي تلك اللحظة، انقشعت الغيوم عن الشمس، وكأنها تحررت من قيدها، وأرسلت أشعتها الذهبية تغمر المكان، تمتد فوق الماء، وتشرق على الوجوه... تبعث فيها حياة جديدة