أيمن سلامة: بطرس بطرس غالي أيقونة الدبلوماسية العالمية ورمز الدفاع عن قضايا الجنوب


في السادس عشر من فبراير من كل عام، تتجدد ذكرى رحيل أحد أعظم الدبلوماسيين العرب والأفارقة، بطرس بطرس غالي، الرجل الذي سطر اسمه بحروف من ذهب في تاريخ السياسة الدولية.
بطرس غالي لم يكن مجرد أكاديمي أو دبلوماسي عابر، بل كان شخصية استثنائية جمعت بين الصلابة الفكرية والحنكة السياسية، ليصبح أول أمين عام عربي وأفريقي للأمم المتحدة، وأول أمين عام لمنظمة الفرانكوفونية، وصوتًا جهيرًا لقضايا الجنوب والدول النامية في ساحات صنع القرار العالمي.
من قلب القاهرة إلى قمم الدبلوماسية الدولية
وُلد بطرس بطرس غالي في قلب مصر، ونهل من معينها الفكري، لينطلق بعد ذلك إلى فرنسا حيث أكمل دراسته الجامعية، متقنًا اللغات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية. لم تكن هذه اللغات مجرد أدوات تواصل، بل كانت جسورًا عبر بها إلى العالم، حاملًا معه قضايا أمته ومبادئ العدالة والسلام.
في منتصف ستينات القرن الماضي، أطلق غالي مجلة "السياسة الدولية"، أول مجلة عربية متخصصة في الشؤون السياسية والاستراتيجية، والتي أصبحت فيما بعد منبرًا فكريًا للمحللين والسياسيين، ورمزًا للرؤية العميقة والواعية لمجريات السياسة الدولية.
معارك السياسة والدبلوماسية: رجل المبادئ في وجه العواصف
في عام 1992، تولى بطرس بطرس غالي منصب الأمين العام للأمم المتحدة، ليبدأ رحلة مليئة بالتحديات، حيث كرس جهوده لتعزيز دور المنظمة الدولية في حل النزاعات وإحلال السلام، لكن مواقفه الحازمة والداعمة للحقوق المشروعة للشعوب لم تكن لترضي القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.
كانت ذروة المواجهة عندما أصر غالي على نشر تقرير لجنة الأمم المتحدة حول جريمة الحرب التي ارتكبتها إسرائيل ضد كتيبة حفظ السلام الفيجية في قانا، لبنان، أثناء حملة "عناقيد الغضب" عام 1996.
لم يكن قراره سوى تأكيد على التزامه بالمبادئ الأخلاقية والعدالة الدولية، لكنه دفع ثمن موقفه غاليًا، إذ استخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) لمنع إعادة انتخابه لولاية ثانية، ليكون الوحيد في تاريخ الأمم المتحدة الذي يُحرم من تجديد ولايته بقرار منفرد من دولة كبرى.
شاهد على أشد مفاوضات السلام تعقيدًا
لم يكن بطرس غالي مجرد دبلوماسي يجيد صياغة البيانات، بل كان شاهدًا ومشاركًا في أشد المفاوضات حساسية في التاريخ الحديث. كان حاضرًا في المفاوضات الشرسة التي جرت بين مصر وإسرائيل في كامب ديفيد عامي 1978 و1979، حيث ساهم بخبرته القانونية والدبلوماسية في تحقيق مكاسب لمصر والعالم العربي، رغم الضغوط والتعقيدات التي أحاطت بالمحادثات.
تكريم عالمي لمسيرة حافلة بالعطاء
لم تمر مسيرة بطرس غالي دون اعتراف عالمي بمساهماته الاستثنائية، حصل على أرفع الأوسمة المصرية والأجنبية، تقديرًا لدوره الرائد في خدمة السلام العالمي والتنمية الدولية، وظل حتى وفاته رمزًا للدبلوماسية الشجاعة، والمثقف الموسوعي، ورجل الدولة الذي لم يفرط في مبادئه، حتى في أصعب اللحظات.
إرث لا يموت
اليوم، بعد مرور سنوات على رحيله، يظل إرث بطرس بطرس غالي حيًا في صفحات التاريخ، وفي قلوب من آمنوا بعدالة قضيته ونزاهة مسيرته، إنه ليس مجرد اسم في كتب السياسة، بل هو مثال حي على أن المبادئ يمكن أن تبقى صامدة، حتى في وجه أعتى العواصف السياسية. إن ذكراه ليست مجرد استعادة للماضي، بل هي دعوة للتأمل في مستقبل الدبلوماسية العربية والدولية، وكيف يمكن استلهام مسيرته لصياغة سياسات عادلة ومستقلة في عالم مضطرب.