الثلاثاء 11 فبراير 2025 04:09 مـ
النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز

رئيس مجلس الإدارة د. يحيى عبد القادر عبد الله

رئيس التحرير جودة أبو النور

أدب وثقافة

علي البدر يكتب: التحليل النقدي لقصيدة ”ونحن كما نحن...” للشاعرة أمل صالح

النهار نيوز

ونحنُ كما نحنُ
نستضيءُ من خيوطِ الشمسِ
أغنيةٌ بلونِ الربيع
في ضبابِ موانئ بلا مَدىً
المدى يولَدُ مِن إرادتنا
نُحاورُه في الصبحِ والَمساءِ
ونكتبُ لِمَن لم يَرَهُ
أن يُعيدَ النظرَ
في كلَ ما حَولَهُ
كم هي شاسعةٌ الحقولُ الخضراءَ
تَعتلي أفكاري السوداءَ
وتنتصر...
أحبُّ نفْسي اكثرَ عِندَ الانتصار
بدمعةِ صُمودٍ
واشراقةِ روحٍ،
في عالَمٍ يَتَخَبَّطُ في فَتحةِ إبرة ..
أفتحُ النوافذَ المُطِلَّةَ
على أعماقي
وأطلقُ عصافيرَ الحبِّ
هذا الفضاءُ الرحب لكَ
كمْ جميلٌ أن نُعانِقُه...!
القصيدة تتجلى فيها روح الأمل والمقاومة، حيث تسلط الضوء على الإرادة الإنسانية كقوة قادرة على تجاوز الضباب والحدود غير المرئية. يبدأ النص بإعلان الثبات والتجذر في الهوية (ونحن كما نحن) ، وكأن الشاعرة تؤكد على قوة الذات رغم اضطرابات العالم.
التشبيهات والاستعارات الميتافيزيقية (metaphysical metaphors) في هذه القصيدة تضفي عليها بعدًا فلسفيًا وتأمليًا، حيث لا تكتفي بالإيحاء المعجمي المباشر The direct lexical suggestion.، بل تتجاوز إلى دلالات أعمق تعكس علاقة الإنسان بالكون والمطلق The universe and the absolute.
القصيدة دعوة عميقة لأن "نستضيء من خيوط الشمس"، عندما تعكس استعارة مركبة، حيث أن الخيوط تجسيد للضوء كشعاع متشابك. الصورة تجمع بين الحسية (الشمس، الخيوط) والمجرد (الاستضاءة كمعرفة أو هداية). ويمكن فهمها كتلميح صوفي، إذ يرتبط النور في الأدب الروحي بالحقيقة، المعرفة، أو الإشراق الروحي.
وإذا كان الضوء رمزًا للحقيقة، فهذه الصورة تطرح فكرة أن الحقيقة ليست متاحة مباشرة، بل تأتي إلينا عبر خيوط دقيقة، أي عبر وسائل أو تجارب معينة، يمكن ربطها بمفهوم الإدراك التدريجي، حيث لا يأتي النور دفعة واحدة، بل على هيئة "خيوط" نفهمها مع الوقت. المدى إذن" يولد من إرادتنا" حيث تتجلى الاستعارة الفلسفية التي تجعل المدى (وهو مفهوم مكاني مجرد) كيانًا حيًا يولد ويزدهر ليشع أملًا وإرادة وكأن الشاعرة تتحدى الفكرة التقليدية عن الحدود، حيث لا يكون المدى شيئًا خارج إرادة الإنسان، بل ناتج عنها. وهذا طرحٌ لرؤيةٍ وجوديةٍ ترى أن الواقع ليس شيئًا ثابتًا، بل هو امتداد لما نؤمن به ونقرره. "كم هي شاسعة الحقول الخضراء تعتلي أفكاري السوداء وتنتصر."
تشبيه حسي، عندما تعتلي أي تسيطر وتتوغل على الأفكار وليس العكس. قلب العلاقة يمنح الصورة عمقًا جديدًا وما الضير في هذا ما دامت الشاعرة قد منحت الحقول بعدا انسانيًا ضمن عملية أنسنة رائعة unique personification ؟
جميل أن يكتسب الجماد حياة مبهجة تشاركنا وكأنها جزء منا وهذا بحد ذاته انتصار للأمل على الأفكار السوداء وتجسيد لصراع نفسي داخلي بين الإيجابي والسلبي. ولابد أن يمنحنا الأمل تمسكًا بالحياة ومقاومة الصعاب ما دام "المدى يولد من إرادتنا" وبكل ثقة وحب " نحاوره في الصبح والمساء" ونحس به ونتفاعل معه وكأنه جزء منا. وهكذا يولد الأمل من خلال الألم ويكتسي السواد بخضرة الأرض وزرقة السماء ويفتح لنا الحب أبواب الحرية. الحب هنا ليست شعرورًا فقط بل كيانات مجنحة يمكن أن تطير محلقة على أجنحة العصافير :
"وأطلق عصافير الحب
هذا الفضاء الرحب لك
كم جميل أن نعانقه...!"
صورة تربطنا بالحرية والانطلاق عندما تتحول العاطفة إلى شيء ملموس يمكن تحريره. وإطلاق العصافير تشكل أو تعكس فعلًا إراديًا، أي أن الشاعرة تملك القدرة على منح الحب ونشره، لا أن تكون مجرد متلقٍّ له. الصور ليست مجرد زخرف بلاغي، بل تحمل رؤىً فلسفية وإنسانية. إنها تعيد تشكيل علاقتنا بالأشياء: الضوء ليس فقط إضاءة، بل هداية تدريجية. والمدى ليس مسافة، بل إمكانية نخلقها بإرادتنا والأفكار ليست مجرد ذهنية، بل كيانات يمكن للحقول الخضراء أن تزيحها. أما الحب فهو ليس مجرد إحساس، بل كائن حي يمكن إطلاقه.
كل هذه التشبيهات والاستعارات تحمل نفسًا صوفيًا ووجوديًا، يجعل القصيدة تأملية وذات أبعاد متعددة يمكن للمتلقي أن يقرأها بطرق مختلفة. ومن المعتاد أننا نفتح النوافذ من أجل اطلالة على عالم خارجي، لكن نوافذ الشاعرة تأخذها نحو عالم داخلي "أفتحُ النوافذَ المطلةَ على أعماقي"، أي أنها تفتح نفسها لعالم أعماقها التي تشبعت بالقوة والأمل والقدرة على تحدي الصعاب، لتشعر بالزهو العقلاني الحقيقي. فرحة بعمق الانتصار لدرجة البكاء. أجل بكاء فرح وأمل:
" أحبُّ نفسي أكثر عند الانتصار
بدمعةِ صمودٍ
واشراقةِ روح...
صورة ليست مجرد تعبير شاعري عن التأمل، بل هي حركة إدراكية عميقة، تدعو إلى النظر إلى الذات كعالم يستحق الاكتشاف. وكأنها تقول: قبل أن نفتحَ النوافذَ على العالم، علينا أن نفتحَها على أرواحِنا أولًا! خُلِقَ الإنسانُ لكي يتحدى الصعاب ويلوي العقبات والفكر التشاؤمي الانهزامي، وهذه القصيدة التي كُتبتْ بأسلوبٍ حرٍّ، رسالة حب وأمل وفضاء رحب " كم جميل أن نعانقه!".