الاستغلال القبيح للمنصب: عندما تتحول السلطة إلى وسيلة للإذلال
النهار نيوزبقلم غزلان بنت علي البلوشية
السلطة والمسؤولية في مكان العمل ليست مجرد امتيازات، بل هي أمانة عظيمة وتكليف نابع من الثقة والأمل في إحداث فرق إيجابي في حياة الآخرين. كل موظف يتطلع أن يكون منصبه وسيلة لتحقيق الخير والتعاون وتعزيز الإبداع، لكن الواقع أحياناً يحمل في طياته وجهاً مظلماً، حيث نجد من يستغل هذه السلطة لمصالحه الخاصة. يصبح المنصب سلاحاً بيد القليلين ممن يفضلون استخدامه لإذلال زملائهم، والتحكم في مصائرهم، وكأنها لعبة باردة بلا مشاعر.
من المؤلم أن نرى كيف يتحول الزملاء إلى ضحايا لهذه السلطة المظلمة، وكيف يتحول الأمل والحماس في عيونهم إلى حزن وخيبة. قد نجد شخصاً مجتهداً ينطفئ شغفه بسبب كلمات قاسية، أو آخر يتجنب الإبداع خوفاً من السخرية. هذه التصرفات لا تقتصر فقط على التأثير على الأداء الوظيفي، بل تترك جروحاً نفسية عميقة لا تلتئم بسهولة.
وهنا، يجب أن نتساءل: كيف يستطيع صاحب السلطة أن يستغل منصبه لإذلال من حوله؟ وأين ذهب الضمير الإنساني الذي يذكّرنا دائماً بأن كل منصب أو مسؤولية ما هي إلا أمانة نُحاسب عليها؟
استغلال المنصب هو استخدام السلطة الممنوحة في العمل لأهداف شخصية على حساب كرامة الآخرين وحقوقهم. وهو سلوك يشوه المبادئ الأخلاقية ويُفقد الثقة في بيئة العمل. عوضاً عن أن يكون المنصب أداةً لبناء الثقة والتطوير، يتحول عند بعض الأشخاص إلى وسيلة للتحكم بالآخرين، والانتقاص من حقوقهم، وإشعارهم بالدونية.
كيف يظهر الشخص المُستَغِل سلوكيات التكبر والهيمنة
الشخص المستغل يستعرض سلطته بطرق غير لائقة، محاولًا التأكيد على تفوقه الوظيفي ومكانته العالية. قد يتحدث بتعالي، ويتجاهل أفكار الآخرين، ويتصرف وكأن رأيه وحده الصائب، متجاهلًا بذلك جهود الفريق ومساهماتهم. هذه الهيمنة لا تتوقف عند الكلمات، بل تتجسد في قرارات قاسية أو غير عادلة، تجعل من حوله يشعرون بأنهم مجرد أدوات لتنفيذ أوامره، بلا قيمة أو احترام.
تتنوع أساليب استغلال السلطة وتتخذ أشكالاً مختلفة، منها:
التقليل من قيمة الآخرين: يتعمد الشخص المستغل التقليل من إنجازات زملائه أو موظفيه، محاولاً إحباطهم وبث الشك في نفوسهم تجاه قدراتهم.
التحكم في الحقوق: يستخدم سلطته لمنع الترقيات أو الحوافز لمن لا يُظهرون الولاء الشخصي له، أو لمن يرفضون الخضوع لإملاءاته. في بعض الأحيان، قد يتدخل في قرارات تتعلق بإجازاتهم أو أوقات راحتهم، محولاً حقوقهم الأساسية إلى امتيازات متقلبة.
إلقاء اللوم وتحميل المسؤوليات: يستغل موقعه لإلقاء اللوم على الآخرين في حال وقوع أخطاء، حتى وإن كانت ناتجة عن قراراته هو.
الأسباب النفسية والاجتماعية لهذا السلوك
من الناحية النفسية، استغلال السلطة يُعتبر غالبًا محاولة لتعويض نقص داخلي يشعر به الشخص المستغل. قد يكون هذا الشخص قد نشأ في بيئة كانت تفتقر إلى التقدير أو الدعم، فيبحث عن القوة في مكان آخر ليشعر بالتحكم. يشعر ببعض العجز الداخلي، ولذلك يحاول أن يظهر قوته من خلال إذلال الآخرين والتقليل من شأنهم. وفي هذه اللحظات، يعتقد أن التسلط على من حوله هو السبيل الوحيد ليشعر بالاستقرار النفسي، حتى وإن كان على حساب الآخرين.
أما على المستوى الاجتماعي والتربوي، فإن البيئة التي يتعامل فيها الشخص قد تكون محفزة لهذا السلوك. أحياناً، يتم تعزيز ثقافة "الهيمنة" والنفوذ، سواء في الأسرة أو في المجتمع أو في بيئة العمل، مما يعزز فكرة أن النجاح يأتي من خلال التحكم بالآخرين. في بعض الثقافات يُنظر إلى القوة على أنها الطريقة المثلى للتعبير عن الذات، مما يجعل الشخص المُستَغِل يعتقد أن هذا السلوك مقبول ومُبرر. قد تكون التربية قد غفلت عن تعليمه قيمة الإحترام المتبادل، فصار يظن أن التسلط هو ما يضمن له التقدير.
من هنا، لا بد أن نعي كيف أن هذه السلوكيات لا تنبع فقط من الأفراد أنفسهم، بل من بيئة اجتماعية تشجع على الهرمية، ومن تجارب مر بها المستغل جعلته يعتقد أن قوته تأتي من إخضاع الآخرين.
كيف يؤدي استغلال السلطة إلى تدهور الروح المعنوية للموظفين؟
عندما يتحول المنصب إلى أداة استبداد، فإن تأثيره لا يقتصر فقط على الشخص المستغل، بل يمتد ليشمل كل من حوله. ففي بيئة العمل، يكون للروح المعنوية دور كبير في الدفع نحو الإنتاجية والابتكار. لكن عندما يُسْتَغَل المنصب لإذلال الآخرين، تتلاشى هذه الروح تماماً؛ الموظفون الذين يتعرضون للتحكم غير العادل أو السخرية المستمرة يشعرون بالتهميش والضعف، مما يقلل من عزيمتهم ويؤثر على أدائهم. تدهور معنوياتهم يعكس نفسه في كل جانب من جوانب عملهم، بدءًا من ضعف الالتزام وصولاً إلى انخفاض الجودة والإبداع في أداء مهامهم.
الأثر النفسي على الموظفين المهمشين
الإنسان - بطبيعته - يحتاج إلى الشعور بالإحترام والتقدير كي يُعطي أفضل ما لديه. عندما يُستخدَم المنصب للتهكم على الآخرين أو تقليل قيمتهم، فإن الأثر النفسي يكون عميقاً. الموظفون الذين يتعرضون للتهميش والإذلال يفقدون الثقة في أنفسهم وفي بيئة عملهم، ويشعرون بالوحدة والعزلة. قد يؤدي ذلك إلى مشاعر من العجز والإحباط، التي قد تتحول إلى اكتئاب أو تراجع شديد في الأداء. هؤلاء الموظفون يبدأون في الشك في قدراتهم الشخصية، وقد يفقدون رغبتهم في المشاركة أو المساهمة في تطوير العمل، مما يخلق دورة من التدهور المتواصل.
قصص معاناة موظفين من استغلال السلطة
قصة (ز) أحد الموظفين الذين عانوا من استغلال السلطة بشكل مباشر. سامي كان موظفاً مخلصاً في عمله، دائماً ما يقدم أفكاراً مبتكرة ويسعى لتحقيق التميز لكن في ظل مدير استغل منصبه للتقليل من قيمة فريقه، بدأ سامي يشعر بالضغط المستمر كان مديره يتجاهل كل إنجازاته ويسخر من اقتراحاته، مما جعله يبدأ في فقدان الثقة في نفسه في النهاية بدأ يقلل من تقديم الأفكار، وتراجع أداؤه، وأصبح لا يملك الحافز للمشاركة في المشاريع الكبرى. كان سامي يشعر وكأن كرامته تهدر كل يوم، مما أثر عليه شخصيًا ومهنيًا، حتى أنه قرر في النهاية ترك وظيفته بحثًا عن بيئة تحترمه.
أما (ؤ) فقد كانت تعمل في قسم الموارد البشرية لشركة كبيرة. كانت دائماً تلتزم بمسؤولياتها وتبذل قصارى جهدها لخدمة زملائها. لكن، بسبب سلوكيات مديرها المتسلطة، أصبح كل نجاح تحققه لا يحسب لها. كان مديرها دائماً ما يُقلل من جهودها أمام الجميع، ويعطي الفضل لغيرها من الزملاء في مشاريع كانت منى قد بذلت فيها جهدًا كبيراً. بدأ هذا الإحساس بالتجاهل والظلم يؤثر على حالتها النفسية. شعرت بالحزن العميق، وفقدت حماستها للعمل. حتى حياتها الشخصية تأثرت، حيث أصبحت تزداد توترًا وقلقاً.
تلك القصص، وإن كانت مفجعة، إلا أنها تمثل الحقيقة المرة التي يعيشها العديد من الموظفين في بيئات عمل تتسم بالاستغلال.
الحلول والمبادرات لمكافحة هذا السلوك
لمكافحة استغلال السلطة والإذلال في مكان العمل، هناك مجموعة من الحلول والمبادرات التي يمكن أن تساهم في تغيير الواقع وتحقيق بيئة عمل صحية ومتوازنة. هذه الحلول لا تقتصر على الإجراءات الإدارية فقط، بل تشمل أيضًا التوجهات الثقافية التي تعزز من احترام الإنسان في مكان العمل.
دور الإدارة العليا في العدالة والمساواة
الإدارة العليا هي القلب النابض لأي مؤسسة، وهي التي تحدد الثقافة المؤسسية. لضمان العدالة والمساواة في بيئة العمل، يجب على القادة التنفيذيين أن يتخذوا مواقف حازمة ضد أي سلوك استغلالي. يتطلب ذلك أن يتبنى هؤلاء القادة مبادئ واضحة تضمن لجميع الموظفين حقوقهم كاملة، وأن يتم التعامل مع أي مخالفات بشكل سريع وفعال.
يجب على الإدارة العليا أن تكون قدوة في سلوكياتها، وأن تُظهر احتراماً حقيقياً للموظفين بغض النظر عن مناصبهم. عندما يشعر الموظفون أن القيادة تأخذ قضاياهم بجدية، فإن ذلك يعزز شعورهم بالأمان ويُشعرهم بأنهم جزء من بيئة عمل تحترمهم.
أهمية تدريب القادة على الإدارة العادلة
تدريب القادة والمديرين ليس مجرد خيار بل ضرورة. القائد العادل هو من يمتلك القدرة على اتخاذ القرارات الحاسمة دون التحيز، ويُعامل الجميع بإنصاف واحترام.
تتمثل أهمية التدريب في تمكين المديرين من التعرف على أساليب القيادة التي تعزز من التواصل الجيد مع فرقهم، ويُمكنهم من إظهار التعاطف وفهم التحديات التي قد يواجهها الموظفون. يجب أن يشمل التدريب على إدارة النزاعات، وفن التواصل مع الفريق بطريقة تحفزهم بدلًا من تحطيم معنوياتهم.
قائد عادل لا يتصرف وفقاً لمزاجه أو تفضيلاته الشخصية، بل بناءً على مصلحة الفريق والعمل. عليه أن يكون موجهاً ومُلهماً، وليس متسلطاً. التدريب على هذه القيم يمكن أن يقلب الوضع داخل أي مؤسسة، ويعزز من الأداء الجماعي والتعاون.
حلول وتوصيات عملية
1. تعزيز ثقافة الشفافية والمشاركة: يجب على المؤسسات أن تتبنى سياسات شفافة تسمح لكل موظف بمعرفة معايير الأداء والترقيات. عندما يعرف الموظف ما يُتوقع منه بشكل واضح، يشعر بالتقدير والعدالة، مما يقلل من فرص استغلال السلطة.
2. إنشاء قنوات تواصل سرية وآمنة: من الضروري توفير قنوات تواصل يمكن للموظفين من خلالها الإبلاغ عن أي سلوك غير لائق أو استغلالي دون الخوف من الانتقام. هذه القنوات يمكن أن تشمل صناديق الاقتراحات، أو خطاً ساخناً للإبلاغ عن المشكلات.
3. تحفيز التقدير الشخصي: يُعتبر التقدير الشخصي من أهم أدوات تعزيز الروح المعنوية. عندما يشعر الموظف بأن جهوده مُعترف بها من قبل مديره، فإنه يبذل جهدًا أكبر. لذا، يجب تحفيز القادة على إبراز النجاحات الصغيرة قبل الكبيرة، والتأكيد على دور كل موظف في نجاح الفريق.
4. تنظيم ورش عمل لتطوير المهارات القيادية: تنظيم ورش عمل وندوات تستهدف جميع المدراء والمشرفين، لتعلم مهارات القيادة العادلة، وكذلك كيفية تشجيع الإبداع وتعزيز بيئة العمل الصحية.
5. تنفيذ سياسة "الاعتراف والإشادة": يجب أن يتضمن كل تقييم أداء للمسؤولين تسليط الضوء على سلوكيات القيادة العادلة والإنسانية. عندما يتم تقييم القائد بناءً على كيفية معاملة الموظفين، فإنه سيشعر بمسؤولية أكبر تجاه سلوكياته.
تجارب واقعية تلهم التغيير
في العديد من المؤسسات التي طبقت مثل هذه الحلول، شهد الموظفون تحولًا حقيقيًا في بيئة العمل. مثلًا، في إحدى الشركات الكبيرة، قرر الفريق التنفيذي تنظيم ورش تدريبية مكثفة لجميع القادة لتعليمهم كيفية التواصل مع الموظفين بشكل أكثر تعاطفًا وعدلاً. بعد تطبيق هذا التدريب، تحسنت الروح المعنوية للموظفين بشكل كبير، وزادت نسبة رضاهم عن بيئة العمل، وبدأت المؤسسة في تحقيق نتائج مبهرة.
أحد القصص الملهمة في هذا المجال تأتي من إحدى الشركات التي طبقت سياسة "القيادة الموجهة بالمشاركة"، حيث أصبح لكل موظف الحق في تقديم أفكاره وتوقعاته بشأن استراتيجيات العمل. أدت هذه السياسة إلى تعزيز الثقة بين الموظفين والمديرين، وارتفع أداء الشركة بشكل ملحوظ.
من خلال تبني هذه الحلول العملية، يمكننا بناء بيئة عمل مليئة بالإيجابية والاحترام المتبادل، حيث يتحقق النجاح الحقيقي لجميع الأطراف.
الخاتمة
إن السلطة ليست مجرد أداة للتحكم أو فرض القوة، بل هي مسؤولية عظيمة تتطلب الحكمة والعدل. يجب على كل من يمتلك منصبًا أن يتذكر أن مهمته الأولى هي خدمة الآخرين، وأن احترامهم وتقديرهم هو السبيل الوحيد لبناء بيئة عمل صحية ومنتجة. استغلال السلطة ليس فقط فعلًا غير أخلاقي، بل هو جريمة بحق الإنسان وكرامته.
إن كان لديك السلطة، فتذكر أن القيادة الحقيقية تكمن في قدرتك على رفع الآخرين، وليس في تحطيمهم. فالقائد العظيم هو من ينشئ بيئة يتشارك فيها الجميع في النجاح والابتكار، ويشعر كل فرد فيها بالتقدير والاحترام. لا تدع القوة التي تمتلكها تكون سببًا في زعزعة روح الآخرين، بل اجعلها مصدراً للإلهام والتقدم.
لن تكون أنت القائد الذي تستحقه مؤسستك أو مجتمعك إلا إذا قدمت مثالاً في العدالة والتعاطف، وكنت حريصاً على أن تنقض العثرات لا أن تزيدها. دع هذا المبدأ يكون دليلك في كل خطوة تخطوها في حياتك المهنية والشخصية.