أيمن سلامة : متي تفعل المادة الخامسة من معاهدة حلف الناتو ؟
النهار نيوزأثارت تصريحات المسؤولين الروس يوم أمس بشأن قرب اندلاع حرب عالمية ثالثة واللجوء المحتمل للخيار النووي موجة من القلق والترقب العالمي، لتعيد إلى الأذهان أسوأ كوابيس الحرب الباردة. التصريحات، التي وُصفت بأنها الأكثر تصعيدًا منذ بداية النزاع في أوكرانيا، جاءت لتدق ناقوس الخطر بشأن مستقبل الاستقرار الدولي.
إن الحديث عن الخيار النووي لم يعد مجرد تهديد ضمني، بل بات واقعًا مرعبًا يُلوح في الأفق، مما يهدد بإعادة تشكيل خريطة العالم بأسوأ الطرق الممكنة. العالم بأسره تابع بقلق بالغ هذه التصريحات، التي تحمل رسائل واضحة للدول الغربية بشأن دعمها العسكري المستمر لأوكرانيا.
فبين التحذير من "تجاوز الخطوط الحمراء" والتأكيد على استخدام "كل الوسائل المتاحة لحماية الأمن القومي"، يبرز خطاب روسي يتسم بالتصعيد الحاد الذي قد يدفع أطراف النزاع إلى نقطة اللاعودة.
القلق العالمي يتجاوز حدود السياسة والجغرافيا، ليصل إلى وجدان شعوب العالم التي تعيش تحت وطأة الخوف من المجهول ،والسيناريوهات المروعة لاندلاع نزاع نووي تعني تهديد وجود البشرية بأكملها، وليس فقط الأطراف المتصارعة.
مفهوم الدفاع الجماعي والمادة الخامسة
يُعد الدفاع الجماعي أحد الأعمدة الرئيسية التي بني عليها حلف شمال الأطلسي منذ تأسيسه عام 1949. ومن منظور قانوني، تُجسد المادة الخامسة هذا المفهوم بأوضح صوره، حيث تنص على أن أي هجوم مسلح على دولة عضو يُعتبر هجومًا على جميع الأعضاء، مما يُلزمهم بالدفاع عن الدولة المتضررة. جاءت هذه المادة كرد فعل للظروف الأمنية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وأثناء الحرب الباردة، حيث كان هناك خوف من توسع النفوذ السوفييتي وانتشاره في أوروبا.
وقد استندت هذه المادة إلى مبدأ قانوني متعارف عليه في القانون الدولي يُعرف بمبدأ الدفاع الشرعي أو الدفاع عن النفس الجماعي، وهو مبدأ منصوص عليه أيضًا في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة. وينص هذا المبدأ على حق الدول في الدفاع عن نفسها في حال تعرضها لهجوم مسلح، ويتيح للناتو بموجب المادة الخامسة تقديم الدعم للدول الأعضاء ضد أي تهديد خارجي يُهدد أمنها وسيادتها.
عند تفعيل المادة الخامسة، يمكن أن يختار الأعضاء الرد العسكري الجماعي، أو تقديم المساعدات بطرق أخرى، حسب الظروف والاحتياجات. ولا يُعدّ الرد العسكري الخيار الوحيد، حيث يمكن أن يتضمن الدعم تبادل المعلومات الاستخباراتية، والتعاون الدبلوماسي، والعقوبات الاقتصادية، والإجراءات الأمنية الأخرى. وبالرغم من أن الناتو يُعنى أساسًا بالدفاع العسكري، إلا أن تطوير استراتيجيات متعددة غير عسكرية تُعبر عن طبيعة المنظمة كحلف جماعي يسعى إلى مواجهة التهديدات بطرق مختلفة ومتنوعة، بما يضمن الحفاظ على أمن أعضائه دون الاندفاع نحو التصعيد العسكري غير الضروري.
تفعيل المادة الخامسة: الشروط والتطورات الحديثة
ينص ميثاق الناتو على أن تفعيل المادة الخامسة يتطلب وقوع "هجوم مسلح" على إحدى الدول الأعضاء في الحلف، وفي العادة، تُتخذ هذه الخطوة بناءً على مشاورات بين الدول الأعضاء التي تُقيّم الموقف وتقرر فيما إذا كان الوضع يتطلب اتخاذ هذا الإجراء أم لا.
الجدير بالذكر أن تفعيل المادة الخامسة ليس تلقائيًا؛ إذ يتطلب إجماع الدول الأعضاء، بما في ذلك الولايات المتحدة، وعادة ما تدرس الدول الظروف والأدلة لتحديد ما إذا كان الهجوم يستدعي الرد العسكري الجماعي. وهذا يُظهر أن الحلف يتبنى نهجًا حذرًا ومسؤولًا عند التعامل مع هذا القرار الاستراتيجي. على سبيل المثال، تُعتبر الهجمات الإلكترونية التي لا تترك أثارًا جسدية على أراضي الدول الأعضاء تحديًا كبيرًا للناتو في سياق تفعيل المادة الخامسة، حيث يجب تقييم الأضرار بجدية والاتفاق عليها بين الأعضاء.
التطورات الحديثة: دعم أوكرانيا والتهديدات الروسية
في ضوء التطورات الأخيرة، بما في ذلك تصاعد التهديدات الروسية لأوكرانيا، ودور الولايات المتحدة وغيرها من دول الناتو في دعم أوكرانيا، أصبح من الواضح أن هناك احتمالًا لزيادة التوترات في المنطقة، خاصة في حال توسع الصراع وامتداده إلى أراضي الدول الأعضاء في الناتو. وفي السياق الحالي، منح الرئيس الأمريكي جو بايدن تصاريح تسمح لأوكرانيا بمهاجمة عمق الأراضي الروسية باستخدام أسلحة أمريكية متقدمة. هذه الخطوة تُعتبر تصعيدًا في مستوى الدعم العسكري الذي يُقدم لأوكرانيا، ولكنها تثير أيضًا تساؤلات حول كيفية تأثير ذلك على التزامات الناتو والدفاع الجماعي للدول الأعضاء.
لا يشمل ميثاق الناتو التزامات مباشرة تجاه أوكرانيا لأنها ليست عضوًا في الحلف، ولكن دعم الدول الأعضاء لأوكرانيا، بما في ذلك تقديم المعلومات الاستخباراتية، والأسلحة، والتدريب العسكري، يُعقد المشهد؛ إذ يزيد من احتمال حدوث "حادث" قد يؤدي إلى تصعيد الصراع ويضع بعض الدول الأعضاء في وضع دفاعي. وتواجه الدول الأعضاء الآن قرارات صعبة تتعلق بمدى استعدادها للتورط المباشر في حالة تعرُّضها لتهديدات روسية، مما قد يؤدي إلى مراجعة المادة الخامسة أو التفكير في تفعيلها.
أمثلة سابقة لتفعيل المادة الخامسة
تم تفعيل المادة الخامسة من ميثاق الناتو مرة واحدة فقط في تاريخه، وكان ذلك بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 على الولايات المتحدة. وفي هذه الحالة، أظهرت الدول الأعضاء في الناتو تضامنها مع الولايات المتحدة، حيث اعتبرت أن الهجمات الإرهابية على الأراضي الأمريكية تندرج ضمن التهديدات التي تستدعي تفعيل الدفاع الجماعي. نتج عن هذا القرار مشاركة العديد من الدول الأعضاء في العمليات العسكرية في أفغانستان كجزء من التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، حيث استمر التدخل العسكري لسنوات عديدة بهدف تحقيق الاستقرار ومواجهة التهديدات الإرهابية.
ختامًا، يعد قرار تفعيل المادة الخامسة قرارًا حساسًا، حيث يتطلب موافقة الدول الأعضاء، ويعكس طبيعة التحديات المتغيرة في العالم المعاصر، من الهجمات الإرهابية إلى التهديدات الإلكترونية والتوترات الجيوسياسية المعقدة.