الجمعة 3 يناير 2025 01:53 صـ
النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز

رئيس مجلس الإدارة د. يحيى عبد القادر عبد الله

رئيس التحرير جودة أبو النور

المقالات

أيمن سلامة: ثورة الجزائر غرة نوفمبر 1954 ...... تفرد وإرث خالد

النهار نيوز

اندلعت الثورة الجزائرية في الأول من نوفمبر 1954 كصرخة مدوية بوجه الاستعمار الفرنسي الذي دام لأكثر من قرن، لتشكل نموذجاً ملهماً وفريداً في سجل حركات الكفاح المسلح ضد الاستعمار في القرن العشرين. امتازت ثورة الجزائر بتضحيات جسام وتكتيكات عسكرية محكمة، وتجاوزت كونها حركة تحرر وطني لتصبح رمزاً خالداً للثورة والنضال العالمي، وتستلهم الشعوب المضطهدة طاقاتها من هذا النبراس.

حملت جبهة التحرير الوطني شعلة هذه الثورة، وقادها أبطال ضحوا بالغالي والنفيس ليكتبوا تاريخاً جديداً في مقاومة الاستعمار والإيمان بحق الشعوب في تقرير مصيرها.

لقد تميزت الثورة الجزائرية عن سائر حركات الكفاح المسلح في عدة جوانب، مما جعلها نموذجاً مشرقاً في التاريخ المعاصر.

أولاً، كان للثورة طابع شعبي شامل؛ فقد شارك فيها الجميع دون تمييز من جميع مناطق الجزائر، وجسدت وحدة نادرة لشعب يرفض الاستسلام، حيث تجلت في الشعار الشعبي "الاستقلال أو الاستشهاد". قاد هذه الثورة جبهة التحرير الوطني، التي جمعت بين العمل السياسي والدبلوماسي والعمل المسلح، لتصبح الصوت الموحِّد للشعب الجزائري في نضاله ضد الاستعمار. وقد نجحت الجبهة في كسب تعاطف ودعم عالميين، حيث استطاعت نقل قضية الجزائر إلى المحافل الدولية، وفضح ممارسات الاستعمار الفرنسي أمام العالم.

ثانياً، امتازت الثورة الجزائرية باستراتيجية عسكرية فريدة من نوعها، حيث اعتمدت على حرب العصابات التي تستنزف العدو في جبال الجزائر وسهولها. ورغم قلة الموارد والأسلحة، استطاع المجاهدون ضرب المستعمر ضربات موجعة أثبتت أن الإيمان بالحرية أقوى من أي جيش. كما استخدم الثوار شبكات اتصالات سرية، وأقاموا قواعد عسكرية في الجبال، وتمكنوا من تكوين جيش تحرير وطني قادر على مواجهة جيش من أقوى الجيوش في ذلك العصر.

لعب أبطال جبهة التحرير الوطني دوراً محورياً في قيادة الثورة، وشكّلوا رموزاً خالدة في قلوب الجزائريين وفي ذاكرة الشعوب المستعمَرة. من أبرز هؤلاء الأبطال الشهيد العربي بن مهيدي، الذي قال عبارته الشهيرة: "إذا مت فإن الجزائر لن تموت، وسينتهي الاستعمار عاجلاً أو آجلاً". وقد قُتل بن مهيدي تحت التعذيب بعد أن أبدى صموداً أسطورياً.

ولا يمكن أن نغفل دور القائد مصطفى بن بولعيد، الذي يُعتبر "أب الثورة الجزائرية"، فقد قاد العمليات الأولى للثورة، وكان رمزاً للصمود حتى استشهد وهو يؤدي واجبه. ومن الأسماء الأخرى التي تركت أثراً خالداً يأتي القائد زيغود يوسف، الذي قاد هجمات 20 أغسطس 1955، حيث أحدثت هذه الهجمات تحولاً كبيراً في مسار الثورة وأثبتت للعالم قدرة الشعب الجزائري على التضحية من أجل حريته.

منذ انطلاقها، أصبحت الثورة الجزائرية أيقونةً للشعوب المستعمَرة، وألهمت العديد من حركات التحرر في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. لقد تحوّلت الجزائر بعد الاستقلال إلى منارة لدعم قضايا التحرر الوطني، حيث تبنّت سياسة خارجية ترتكز على دعم حق الشعوب في تقرير مصيرها. وقد أصبحت الجزائر ملاذاً للثوار من مختلف أنحاء العالم، من فلسطين إلى جنوب أفريقيا، مؤكدة أن مبادئ الثورة لم تكن محصورة في حدود الجزائر، بل كانت رسالة عالمية ضد الظلم والاستعمار.

كانت الجزائر من أوائل الدول التي اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية واحتضنت قادتها، كما دعمت حركات التحرر في إفريقيا، خاصة في جنوب أفريقيا ضد نظام الفصل العنصري ، لقد جسدت الجزائر بمواقفها بعد الاستقلال دوراً ريادياً في حركة عدم الانحياز ودفعت باتجاه إقامة نظام عالمي عادل، يحترم حقوق الشعوب في الحرية والاستقلال.

إن الثورة الجزائرية ليست مجرد صفحة من صفحات التاريخ، بل هي قصة كفاح تستلهم منها الأجيال القادمة معاني التضحية والوحدة والنضال من أجل الحرية. لقد أثبتت الثورة أن الشعوب، مهما كانت ضعيفة وفقيرة، قادرة على هزيمة أقوى جيوش العالم إذا كان إيمانها بعدالة قضيتها قوياً وصلباً. ولم تكتفِ الجزائر بأن تجعل من استقلالها رمزاً للحرية، بل جعلت من دعم الشعوب الأخرى مهمة تاريخية لها، لتبقى الجزائر حتى اليوم وفيةً لمبادئ ثورتها، داعمةً لكل من ينشد التحرر والعدالة.

بهذه الروح استحقت الثورة الجزائرية أن تكون درةً في تاريخ حركات التحرر الوطني، وشهادة على إرادة الشعوب في مواجهة الطغيان، ورسالة أمل لكل من يؤمن أن الظلم لن يدوم، وأن الشعوب الحية ستبقى تقاوم وتستحق الحرية.

تبنّت الجزائر مبدأ دعم حق الشعوب في تقرير مصيرها ونيل استقلالها، وهو مبدأ عميق متجذر في السياسة الجزائرية، انعكس في تبنيها ودعمها للقضية الفلسطينية. فقد أدركت الجزائر، أهمية الوقوف إلى جانب الفلسطينيين الذين يكافحون من أجل حقوقهم الوطنية، فكانت من أبرز الدول التي دافعت عن حق الشعب الفلسطيني في استعادة أرضه وإقامة دولته.

وفي عام 1988، وقفت الجزائر بقوة مع إعلان قيام الدولة الفلسطينية، حيث شهدت العاصمة الجزائرية إعلان رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات قيام دولة فلسطين في 15 نوفمبر من العام ذاته. هذا الإعلان كان لحظة تاريخية واستراتيجية، إذ دعمت الجزائر حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم على أرضهم، واستضافت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، مما أكسب القضية الفلسطينية بعدًا دوليًا كبيرًا وأدى إلى اعتراف العديد من الدول بهذه الدولة الوليدة.

ولم تكتفِ الجزائر بالدعم السياسي والدبلوماسي، بل قدّمت دعماً فعلياً للشعب الفلسطيني في مراحل حرجة من نضاله. ففي عام 1982، استقبلت الجزائر عناصر منظمة التحرير الفلسطينية الذين تم إبعادهم عن بيروت بعد الاجتياح الإسرائيلي، ووفّرت لهم ملاذًا آمناً ودعماً للاستمرار في نضالهم. هذا التضامن لم يكن مجرّد موقف دبلوماسي، بل كان انعكاسًا لالتزام الجزائر بمبادئها الثورية وقيمها التحررية.

عكست هذه المواقف مدى إيمان الجزائر بوحدة المصير بين الشعوب المستعمَرة، ورسّخت مكانتها كداعم أساسي للقضايا العادلة، خصوصاً القضية الفلسطينية التي ما زالت رمزًا للنضال ضد الاستعمار والاحتلال في العالم.