الأحد 8 سبتمبر 2024 06:10 صـ
النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز

رئيس مجلس الإدارة د. يحيى عبد القادر عبد الله

رئيس التحرير جودة أبو النور

أدب وثقافة

الناقد العراقي زيد الشهيد يكتب: قراءة نقدية في المجموعة القصصية ”هذيان” للدكتور مصطفي عارف

الناقد العراقي زيد الشهيد
الناقد العراقي زيد الشهيد

يميل القاص الدكتور مصطفى لطيف عارف في مجموعة " هذيان" إلى جعل بعض قصصه من نوع القصص القصيرة جداً تلك التي تتناول موضوعاً واحداً وتميل إلى التعامل مع شخصية واحدة لا تتسع مساحة القصة وهيكليتها لحركة وتفاعل شخصية ثانية وثالثة، وأكثر؛ هذا إلى جانب عنصر "المفارقة"، تلك التي تشكِّل صدمة للقارئ تجعله يشعر غب انتهاء قراءة القصة بحذق الكاتب وبراعته في كبح جماح خيال القارئ الذي يريد له التجول في فضاء قص طويل وأطول. فالتكنيك الذي تتطلبه القصة القصيرة جداً يرينا التطبيق الأمثل من قبل القاص في عديد النصوص القصصية التي احتوتها المجموعة. فقصّة "الرابح" تقدم لنا قصة نموذجية في تكنيكها وبالتزامها في المساحة والموضوع، ثم المفارقة التي هي الذروة الصادمة التي تشكل خاتمة للقراءة وبادئة للقارئ في أن يتحاور معها في ذاته، راسماً المدلول أو مجموعة المدلولات التي هدف منها النص القصصي القصير جداً. فالنص هنا يرينا كاتباً أفنى العمر في بيئته يكتب ويقدم للقراء تصوراته عن الواقع ومبعث تغييره وانتشاله من بركة الإهمال واللامبالاة ليدخله إلى بستان القراءة والخلق القويم لم يجد من يقيّم إبداعه ولو بوَردةٍ تُقدَّم له اعترافاً بفضلِه في نشرِ الوعي وإعلاء شأنِ الثقافة؛ إنَّما يأتيه التقييمُ والتثمينُ من خارجِ بيئته، وذلك ما يُشعِره بالحزنِ والأسى والألم وهو يستلم تقييماً وحفاوةً من بلدٍ غير بلدهِ بينما الأَولى والأصح أنْ تكونَ بادئةُ التقييم والاحتفاء من قِبل القيّمين على الثقافة والإبداع في بلده((وقفتُ أمام الأدباء ,وقف الجميع.. قلتُ: شكراً جزيلاً على مَنحي هذه الجائزة الكبيرة, ووسام الإبداع ,وسقطَت دمعتي التي فَضحتني.. وقلتُ: تمنَّيتُ لو كانَ تكريمي في بلدي)).. إنَّ المرارةَ التي يَشعرُ بها المبدعُ والمفكِّرُ والعالِمُ إنّما هي صرخةٌ بوجهِ التعمًّدِ في إهمال النجمِ الثاقب، والإصرار على التعاملِ مع العتمةِ على أنّها السلوكُ الأمثل في جعلِ الحياة تسيرُ على رتابةٍ وإيقاع لا ينحوان باتجاهِ تغييرِ الحال والسير نحو هدفٍ أسمى يتمثل بتقييمِ الإبداع وتثمينِ المُبدِّع... وسنجد هذا في نصٍّ قَصصي آخر حمل عنوان: "اغتيال بلد" وهي شفرة متقدمة جاءت كعتبةٍ للنص، ونقصد به العنوان. لنقف بجانبِ المقولةِ الشهيرة "الكِتابُ يُعرف من عنوانِه". فهذا النص جاء ليسير بتوازٍ مع النص السابق، حاملاً نفسَ الهمِّ، ومشيراً إلى الإهمال الذي تعاني منه الرموز العلمية ويتجنّى عليها الروتين القاتل المرتبط بتخلفات إدارية غائرة في الرتابة، ومُصرّة على البقاءِ في قاعِ الجهل وإيقاع الحياةِ المتعثّرة.. إنَّ بطلَ قصة " اغتيال بلد" هو أستاذ جامعي رمَت به أكفُّ الروتين الوظيفي والإهمال الذي يبدو أنَّه مُتعمد في هوَّةِ الحيفِ والقهرِ والجزع، إذ لم يجدَ من يَشكره على جهودِ أربعين عاماً في البحثِ والخلقِ والتوجيه، ويقدّم له راتبه التقاعدي الذي هو حقُّ يجب أنْ يكون ناجزاً وعلى طبقٍ من احترامٍ وتقديرٍ مقرونين بشكرٍ وعرفان. لكنَّ الذي حصلَ هو أنّه بقيَ يراوح في مكانِه ويضطر في نهاية الأمر إلى أنْ يتوجَّه إلى إعداد رسائلَ واطاريحَ يبيعُها على الفاشلين الذين سيتبوؤون المناصبَ بينما يبقى هو يتلقّى النَّقدَ والتعنيفَ لأنه التجأ لبيعِ خبرتِه العظيمةِ لقاءَ ما يسد الرمّق.

وتتبدى المفارقة واضحة وصادمة عند مطالعتنا لقصة أخرى بعنوان " أبله"، وهي تعرض في مدلولاتها التجنّي الذي يحصل للأنقياء مِمَّن يحترمونَ أعمالَهم والوظائفَ الشريفةَ المُناطة بهم مقابل إبداء الاحترام وإعطاء الأهمية لمن يعملون على الأضرار بالإنسان عبر أفعال إرهابية هدفها تحطيم مبادئ دولة مهمتها بث السلام وتوفير العيش الهانئ للمواطن. فالناص يتحدَّثُ عن مهمّةٍ بحثيةٍ يقومُ بها نخبةٌ من علماءِ النفس ومنظمةِ حقوق الإنسان إلى أحدِ السجون التي تجمع إرهابيين ارتكبوا أعمالاً إرهابية بحقد ورضا أزهقت أرواحا ودمَّرت مبانٍ ومنشآت من أجل جنَّةٍ مزعومةٍ رسمها لهم من كانوا مسؤولين عنهم ووعدوهم بها في عالم آخر. ولقد اكتشفت النخبة الزائرة أنَّ هؤلاء الإرهابيين ما زالوا على قيد الحياة ولم تنفذ بهم أحكام الإعدام الصادرة بحقهم. وتنتهي بهم زيارتهم الى زنزانةٍ معتمةٍ وجدوا فيها القاضيَ الشريفَ الذي حَكمَ عليهم بالإعدامِ طبقاً للقانون وشرعِ السماء سجيناً، وقد اتَّهموه بالبلاهةِ والعتَهِ(( سألناه: لِمَ آنت هنا مسجون مع المجرمين؟.. أجاب: لأنني حكمتُ عليهم بالإعدام.. تمَّ سجني هنا سنوات عِدة, واتّهامي بأنّي أبله.)).. إنّها لمفارقة حقّاً؛ تؤكّد الصدمةَ التي هي مِن تقنياتِ القصةِ القصيرة جداً، والتي تجعل المتلقي في حالة من الإعجاب بدلالةِ القصة ومدلولاتها.
واستمرارُ المتابعةِ لنصوص المجموعة القصصية تضعنا على سكة التقاط الصور المؤلمة التي تحمل طابعاً نقدياً للمحيط بصفحاته الاجتماعية والإدارية؛ وحتى الاقتصادية المقرونة بانعدام الخدماتِ والابتعاد عن جَعلِ الإنسان هو الرأسمال الأسمى لدى الأمة والقائمين عليها. فلطالما شكَّل انعدام تقديم الخدمات وإظهار الوطن نموذجاً يُتباهى به- بأعماره وعلوه حضارياً وعمرانياً- صدمةً للكثيرين مِمَّن رَسموا في مخيلتِهم بلدانِهم، حين يغتربون عنه لظروفٍ طارئةٍ أو عن تصميمٍ وقصد، كاليوتوبيا التي تصوِّر تحقيقَ حلمٍ تتجلّى فيه المثالية، وتَتحقَّق الأمنيات؛ وتغدو لدى الآخرين مَضربَ أمثالٍ وإشارة تبعثُ على الفِخار والازدهاء فإذا بهم حينَ يعودون ويضعون أولَ قدمٍ على أرضِ الوطن صورةً رماديةً مشوبةً بالتشوّه والتبعثر وردّة الفعلِ التي يُطلق عليها " المفارقة" أو الصدمة" في تقنية القصة القصيرة جداً، التي أشرنا إليها. وتلك تقدمُها قصة " مرارةُ الواقع" وهي تحكي عودةَ مواطِنٍ اغتربَ نتيجةَ شعورٍ بحيفٍ وقعَ عليه وقرَّر تغييرَ حياتِه نحو الأفضل.. هذا الأفضل الذي تمنّى أنْ يشاهده في بلدِه وهو يعود إليه بعد أعوامٍ طويلة؛ لمنه يصدم بواقعٍ متردٍّ كالذي تركه بعد غربة طويلة.
إن قصَصَ الدكتور مصطفى لطيف عارف هي قصصُ رسمِ الواقع والتعاملَ مع صفحاتٍ كثيرةٍ وعديدةٍ من كتابِ الوطنِ والناس والذي يبقى رُغمَ المرارةِ الراسخةِ في أعماق مواطنيه الحبَّ الكبير، والعشقَ الأبدي الذي لا يُكفَر به، ولا يُدار له الظهَر.

fbfd50343792.jpg
نصطفي/عارف