الأحد 8 سبتمبر 2024 06:37 صـ
النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز

رئيس مجلس الإدارة د. يحيى عبد القادر عبد الله

رئيس التحرير جودة أبو النور

المقالات

الكاتب أيمن السميري يتساءل: هل حقا مات أبي؟!

الكاتب أيمن السميري
الكاتب أيمن السميري

يقولون: كل مُرّ يمُر..

صحيح تلك طبيعة الأشياء والأحداث
الألم هو الابن المدلل للحزن، فالحزن كحالة قد يغادر، ويصعد إلى غيمة شاغرة بعيدًا خلف السحب، يظل يراقبنا وهو يعلم أنه ترك فينا بذرة لألم ووحشة لا يغادران مهما تسلط النسيان، مهما ألهتنا التفاصيل اليومية التافهة.

يبقى الألم كامنًا ينتظر طيف الذكرى كي يُبكي قلبك في صمت ووحشة، يبقى كوشم على القلب، يترقب اللحظة المناسبة كي يعصرك بوخز قاس يفضح انكشافك على الفقد والرحيل..

قبل أكثر من أسبوع في المسافة من الضبعة إلى المنصورة على الطريق الساحلي الدولي، توقفت جميع السيارات أمام كمين شرطة البرلس. لمح ركاب أوتوبيس من زجاجهم العالي دموعي، تنبهت لانكشافي فتحركت مترين للأمام لأخبئ عيوني الدامية بالدمع في الفراغ.

أسأل الفراغ أمامي: هل حقًا ما سمعته في المكالمة هذا الصباح؟

أمات السميري
هل مات أبي؟
تركته منذ أيام قليلة باسمًا، وقبلت رأسه، واتفقنا أن أعود مع منى والبنات لنراه الخميس، لكن الثلاثاء كان أسبق من الخميس، كموعد لا يقبل التأجيل.

أبي ذلك الملهم منذ الطفولة
ذلك الذي كنت أراه كما أرى السماء؛ كبيرًا، غير محدود بقناعات محيطه، يتخطاها دائمًا بهداية وسلام من قلبه، يمكنني وأنا في آخر الدنيا أن أجد إجابات في مخزن تجارب أبي. يمكنني القفز فوق الآلام والخيبات لأن أبي هناك، سيحميني كما كان يفعل دائمًا.

الثلاثاء …موت مؤجل للشاب الصغير الذي كاد أن يموت في أبو سلطان عام ١٩٧٠ في حرب الاستنزاف بعد نسف المعسكر بالكامل، وهو في مهمة قصيرة لجلب الماء إلى الصهاريج.

موت مؤجل لرجل كان يمشي بآثار شظية في يده اليسرى كأنها سوار، وشهادة بمصريته.

كثيرًا ما تساءلت: هل تعرف مصر أبي؟
هل يعرف الوطن هذا الرجل الذي قدم إيمانًا مجانيًا غير مشروط بهذه الأرض، يتحدث عن عبد الناصر كأنه ابن عمه، يحفظ عبارات كاملة من مقالات هيكل في الأهرام، يفاخر بمشاركاته مع الخبراء الروس "السوڤييت" قبل أن يطردهم السادات، تاركين للشاب قاموس من الكلمات الروسية التي ما زال يذكرها. كثيرًا ما داعبته بأنه عميل سوڤيتي، لإيمانه بإخلاص صداقة السوڤيت لمصر.

قبل عام قلت له إنني سرقت جزءًا من سيرته وضمنته في روايتي "شارع بن يهودا" ضحك وقال: ربما تذكرني أحدهم.

هل حقًا مات أبي؟
لا أعتقد
على الأقل ما زال حيًا في ضفيرة الجينوم التي أحملها، في روحي القلقة بالسؤال، في عقلي المندهش بالاكتشاف. أمشي على قدمين كميت مؤجل، وأنا المطبوع بروحه، وأنا المدله بنبراته وطريقة كلامه، وصبره، واستشرافه للبعيد. لم يمت السميري، لقد غادر للراحة، في مكان آمن يستعيد دون صخب تفاصيل رحلته.

في الطريق لم ينقطع التواصل مع أحمد أخي راجيا أن ينتظروني حتى أصل، اتجهت مباشرة إلى مقابر الأسرة، لمحت الجنازة قادمة من بعيد، جريت لأحمل خشبته مع من يحملون، أمام باب بيته الأخير، فتحوا غطاء النعش ومنحوني لحظات لألمسه لمسة أخيرة قبل أن يحول الأسمنت بيني وبينه.

يعاتبني صديقي:
لماذا لم تنشر على صفحتك الخبر ليعزيك الناس، ويعزيك زملاء دائرتك المهنية على الأقل؟

لم أفعل.. هذا ألم خاص واستثنائي، أعيشه وحدي مع أفراد أسرتي ومحبيه الذين يعرفهم ويعرفونه.

هذا ألم خاص أكبر من تفاعل افتراضي، وعزاءات قص ولصق، وانتظار ريأكت دامع.

هذا ألم حميم عن حزن شفيف رائق، لا أنتظر في مقابله دعمًا عابرًا، أو مواساة.

الذي مات أبي
والذي بقي فيَّ هو أبي
حزن سينتهي بالإلهاء، لكن الألم بذرة متى نبتت بين رقائق القلب لا تغادر.

سلام عليك يا أبي في رحاب يليق بك … سلام عليك حتى ألقاك.

cdc6eda02b66.jpg
ايمن/السميري