الإثنين 27 يناير 2025 02:54 مـ
النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز

رئيس مجلس الإدارة د. يحيى عبد القادر عبد الله

رئيس التحرير جودة أبو النور

المقالات

مستشار دكتور محمد جبريل إبراهيم يكتب : نشر الأفكار

مستشار دكتور محمد جبريل إبراهيم
مستشار دكتور محمد جبريل إبراهيم

في شارع عبد السلام عارف بمدينة بني سويف ، وفي غضون عام 1994 كان هناك فتي نحيل يلبس بشكل دائم بلوفر صوف متسع ومتهدل علي جسمه ، ينزل إلي الشارع ويردد بصوت عال أنا الذي نظر الأعمى إلي أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم ، وحفظت من ورائه هذه الكلمات عن ظهر قلب .
الفتي يري في نفسه أن لديه أدب يجب أن ينُظر إليه ، وأن لديه كلمات يجب أن يُسمع إليها ، وهو يرقع صوته ويردد كلماته حتي يعلن للناس عن قدومه وعن تواجده .
فيبدو أن الإنسان لا يعرف حتمية السرية ، ولا ضرورة السكون ، ولا يستريح لفكرة الكتمان ، بل يسعي جاهداً إلي الإعلان والأعلام ، ولا يرضي إلي بالجهر بالأنا ، وإظهار النفس .
إنها الطبيعة التي جبل عليها الإنسان منذ أن كان جنيناً في بطن أمه ، وهو يركض ويرفس في أحشائها ، ثم يخرج من رحمها وهو يصرخ ويصيح ليقول ها أنا جئت ، ها أنا موجود ، فهي طبيعة الأحياء ، وها هي الطيور تغرد في الصباح لتعلن عن وجودها ، وتخبر الخلق بقدومها .
ومنذ القدم والشعراء الكبار أيام الجاهلية يجوبون الأسواق لينشدوا شعرهم أمام الناس ، فتعلق معلقاتهم المميزة علي أستار الكعبة ، لا لشيء إلا للإعلان وحب الظهور ، ورفع الذكر بين العالمين .
وفي هذه الأيام نجد الكثير ممن يقودون حركة السوشيال ميديا ، يبررون كثرة ظهورهم وتعدد منشوراتهم ابتغاء وجه الله ، فيقومون بنشر أفكارهم ويوجهون الجمهور بمنشوراتهم ، ثم بعد ذلك يطرحون السؤال لماذا ننشر أفكارنا ؟؟
فيجيب الواقع سريعاً علي السؤال المطروح ويأتي الرد واضحاً بأن دوافع النشر تكمن في متعة الظهور التي يوفرها النشر ، وشغف التواجد الذي تتيحه الأفكار !! ولا يمنع ذلك بأن الغرض من النشر هو حب المعرفة وابتغاء نشر العلم لوجه الله ابتغاء مرضاته .
وفي الحقيقة فإنه لا أحد ينكر كل هذه الأسباب من حب العلم ونشر المعرفة ابتغاء وجه الله ، ولكن قد تكون متعة الظهور هي الأكبر !!!
كما أن الإنسان دائماً يضيق ذرعاً بما يجول بخاطره من إرهاصات وأفكار ، ولا يمكنه احتمال الاحتفاظ بها لفترة طويلة داخل جوانحه ، بل يسعي جاهداً إلي نشرها وإبدائها للآخرين .
ولعل ذلك يقودنا إلي فكرة هامة وهي أن حب الظهور ، وحب التواجد هو من متلازمات الإنسان ، وقليل من هم يركنون إلي السكون والهدوء وعدم الظهور ، والكثير يري في السكون والكمون والصمت موت كبير ، ولذلك يلجئون إلي مداولة الصيت والسمعة .
وفي الحقيقة فإننا نثمن محاولة البداء ، والسعي نحو الظهور الإيجابي ، فما معني الشمس بدون إشراق ، وما معني القمر بدون بدار ، ونحن ماذا تعني أفكارنا التي تحيا وتموت بداخلنا ، ولا تغادر جماجمنا ، فأفكارنا ليس لها أجنحة ، وإن كانت لها أجنحة فهي كأجنحة الطيور الداجنة لا ترفرف بعيداً ولا تحلق عالياً ، وبالتالي مهما كانت الأفكار ذات قيمة ثمينة ، ولكنها لا تملك أجنحة تخترق بها الحدود والآفاق ؛ فإن مصيرها إلي بطون المستغلين واللصوص ، كالبط والإوز والدجاج حين يخُطف من الحظائر ويُذبح علي ولائم المدعين .
ولذلك فيستحسن تخليد الأفكار باسمنا ، ولا تخّلد الفكرة ولا تعّظم إلا عن طريق نشرها وتطبيقها وتنفيذها ، وكذلك عن طريق إطلاقها في الفضاء الواسع الفسيح ، حينئذ يُخلد أصحابها فمن منا لا يعرف ماركوني ، و توماس إدسون ، وجراهام بل ، ومن ينسي كارل ماركس ، وآدم سميث .
وليس من المتوقع أن تلقي أفكارنا وخواطرنا استحسان وقبول لدي الجميع ، فالموقف من الأفكار يكون علي ثلاث مواقف :-
(1) المناصرة من المناصرين والأتباع : وهؤلاء لو كان معهم المال لخلقوا للأفكار أجنحة قوية تطير بها وترفرف في عنان السماء .
، وأعرف منهم من يكفل العلماء ممن له أبحاث وأفكار تملأ الأرفف والمكتبات ، لكنها ظلت مركونة و مردومة تحت تراب الزمن ؛ فأفلت وانطفأت ، وانطفأ معها أصحابها الذين بذلوا فيها ماء عيونهم ، وزهرة شبابهم ، ولا يقف معهم غير تلاميذهم .
( 2 ) المعارضة من الكارهين والحساد : وهم معاول الردم والهدم والحجب والتخريب ، وأعرف منهم من بذل الجهد والمال لعرقلة الفكر والبحث والإبداع .
( 3 ) اللا مهتمين : وهم اللا واعين وهم من دخلوا في عالم الأفكار ، وكما دخلوا خرجوا .

مستشار دكتور محمد جبريل إبراهيم