سليمان عبد الرحمن شاعر من سيناء ، مقتدر
النهار نيوزسليمان عبد الرحمن
شاعر من سيناء ، مقتدر
سليمان عبد الرحمن شاعر نبطي من شعراء سيناء المجيدين الذين يخطّون للشعر النبطي مسارا جديدا غير مسبوق في هذه الجزيرة الغنية بالفنون والآداب. وسوف نحاول في هذه المقالة أن نضيء ثلاث نواح من النواحي الكثيرة التي تميز فيها سليمان.
1- الصورة الشعرية المتحركة:
يقول عبد القاهر الجرجاني: "اعلم أن مما يزداد به التشبيه دقة وسحرًا أن يجيء في الهيئات التي تقع عليها الحركات". وقوله هذا يبرز التأكيد على حيوية الصورة وشعريتها من خلال تحقق عنصر الحركة في القصيدة الشعرية.
إن الحركة في الشعر النبطي أصبحت ضرورة فنية قليل من يلتفت إليها، ضرورة في وجه الجمود الذي يطرأ على كثير من شعر باديتنا، فهي – أي الحركة – تكسر جمود الدلالة وترفع من مستوى القصيدة؛ لأن انشغال الشاعر بالصور يُعدّ إشارة على جهد الشاعر في تجويد أدائه والرقي به في محاولة فنية لتجاوز ما هو مألوف.
إن الصورة المتحركة هي صورة ناضجة إذا أحسن الشاعر صياغتها، (كما فعل سليمان)، وهي صورة تمتع القارئ وتضعه في حوار نفسي وعاطفي قوي من خلال إشارات تصدر من عمق الصورة إلى سطحها.
اقرأوا إن شئتم ما قال سليمان:
على موج الخطا نفسي أنا دايم أبهجرها
تداعبها نسانيس الهوا وتذبذب اشراعي
وانا ماسك مجاديفي على امواجه وصبّرها
على الدنيا وزينتها وما جاني من اطماعي
على شاطي بحر إيماننا رسيت بواخرها
في تالي الليل تذرف دمعتي رافع انا ذراعي
2- بين سليمان والشعراء القدماء:
لطالما أثار (الـفـقـد) قرائح الشعراء! فهذا امرؤ القيس قد فقد الأحبة؛ فأخذ يعد(الحصى) وهو يبكي واضعًا رداءه فوق رأسه، وهي صورة طريفة صدرت عن موهبة كبيرة:
ظلِلتُ، ردائي فَوقَ رأسيَ، قاعدًا
أعُدّ الحَصَى ما تَـنقَضي عَبَراتي
وهذا الشاعر (ذو الرمة) يرسم مشهدا هائلا معبرا عن حالة الفقد، مشهد مَن يعبث بالحصى ويخط في الرمل من حزن وهَمّ:
عشيّــة مــا لــي حــيلــة غيـــر أنني
بلقط الحصى والخط في التّرب مُولعُ
وإذا كان (ذو الرمة) ربما اطلع على قول (امرئ القيس)؛ فتأثر به، فإني أؤكد أن شاعرنا (سليمان عبد الرحمن) لم يقرأ قول أي من الشاعرين الكبيرين. وإن (الحافر قد يقع على الحافر) حتى ليقول شاعرنا:
مدّيـت كفْـي للحصاصي وحنّـيت
كـنّـه يداعـبها بلمـسـة يديـنـه
أمسيت أداري دمع عيني وياليت
عيني بيومٍ ما تلاقــت بعينه
[نلاحظ أن الحصاصي هي الحصى]
والشعراء الثلاثة يعبرون عن حالة واحدة هي (الـفـقـد)، ويرسمون مشهدا واحدا، ويستخدمون لذلك أداة مشتركة هي (الحصى). ولستُ أريد أن أبالغ فأقول إن شاعرنا فاق الشاعرين الكبيرين، لكنني أوضح نقطتين:
الصورة عند الشاعرين الكبيرين لا تعتمد على أي شكل من أشكال المجاز من تشبيه أو استعارة أو كناية، بل تتوسل بنوع خاص من التصوير هو (السرد)، فهما يحكيان مشهدًا تمثيليًا له معنى بليغ، كما أنهما لم يتفاعلا مع موضوع الصورة (الحصى) تفاعلا حيويا، بل هي مجرد ملامسة.
أما شاعرنا فرسم صورة استعارية فيها تفاعل حيوي بينه وبين الحصى، فيها مداعبة رقيقة بين الشاعر الذي فقد وبين الحصى الذي بقي على آثار المحبوب، لكأن الشاعر يداعب محبوبه في الحصى!
3- بين سليمان والشعراء المحدثين:
الشعر الفصيح قد يلتقي مع الشعر النبطي في مواضع كثيرة، لكن مواهب الشعراء تتفاوت؛ فيصبح عسيرا أن نضع شاعرا محدود الموهبة في مقارنة مع عظماء الشعر، وإلا أوقعناه في مواجهة ظالمة لا يقدر عليها.
هذا ابن لعبون – وهو شاعر نبطي شهير – يقول:
أسأل الصدى: يا للعجب! هل لهم تالي؟
قـال الصدى: يا للعجـب! هل لـهم تـالي؟
وهو قول ربما أخذه (السياب)؛ فسار به شوطا بعيدا، في قوله:
أصيح بالخليج: يا خليج
يا واهب (اللؤلؤ والمحار والردى)
فيرجع الصدى، كأنه النشيج:
يا خليج يا واهب (المحار والردى)
إن محاورة ابن لعبون مع الصدى لم تأت بجديد؛ فقد كرر الصدى الكلام نفسه الذي قاله الشاعر تكرارا فيزيائيا لا فن فيه ولا إبداع. أما السياب، الشاعر القدير، فقد حذف كلمة (اللؤلؤ)؛ ليرسم الفرق الشاسع بين الأماني التي يرجوها من الخليج متمثلة في (اللؤلؤ)، وبين الواقع الأليم الذي عبر عنه في رجع الصدى الذي أسقط (اللؤلؤ)، وهو بذلك يحلق في سماء الإبداع تحليقا يعجز عنه الكثيرون، ويقترب منه الشاعر السيناوي سليمان عبد الرحمن في قوله:
سجّيت لديار بها الصمت ، ناديت
عاود لـجـيـج الصوت ما جاوبني
صحيح أن سليمان لم يبلغ ما بلغه السياب من إبداع خارق غير مسبوق، وصحيح أن سليمان لم يقرأ من قبل قصيدة السياب، لكن الصحيح – أيضا – أن سليمان فاق ابن لعبون بمراحل، ووجه التفوق أن سليمان لم يجعل رد الصدى هو مجرد ترديد حرفي لقول الشاعر، بل تصرف فيه، وجعله أصواتا مختلطة مضطربة لم تكشف عن جواب، لكنها كشفت كشفا فنيا باهرا عن حالة الاضطراب التي يعانيها الشاعر في وقوفه على ديار فقدت أهلها.
ختاما نقول: إن سيناء غنية بالإبداع، وإن في سيناء شعراء يستحقون أن يتلفت الدارسون إليهم، وأن توليهم مؤسسات الدولة الثقافية ما هو جدير بهم من عناية واهتمام.