السبت 18 مايو 2024 04:08 مـ
النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز

رئيس مجلس الإدارة د. يحيى عبد القادر عبد الله

رئيس التحرير جودة أبو النور

أدب وثقافة

الكاتبة الفلسطينية سماح خليفة تكتب: ماذا نريد من الكتابة في ظل الحرب؟!

الكاتبة الفلسطينية سماح خليفة
الكاتبة الفلسطينية سماح خليفة

أتابع ما يصدر عن كتّاب وشعراء غزة من نصوص؛ لأنهم وحدهم من يستطيع سكب الألم طازجًا في مشاعر القرّاء، فأشعر بنشوة الكتابة، ولذّة القراءة، يصفعني قلمي، يؤنّبني ضميري؛ هو بذخ الكتابة إذن! أن تشعر بمتعة الكلمة على الرغم من دمها المسفوح على اتّساع بياضها، هو نبض الكاتب، ولعنة الكتابة، وسوط القارئ، وضحايا النص، وترف الضحية، وجريمة الموت في ساحة البياض المترع على الورق، هو خجلنا من غزة الجريحة التي اعتادت رتق جروحها في جسدها المستباح، بنفسها، والآن جسدها كلّه جرح كبير مفتوح على مرأى العالم، تشردق بدمه الهادر في فم البحر، يحاول ابتلاع الأحمر القاني، الذي أغرق جسدها، وغسل سواد جوعها المسعور في وحشة الحصار، وأنينها المتهدّر على عتبة الذاكرة، يتوسّل الأيام الخوالي عن معنى الحياة، الفرح، الحبّ، الابتسامة... مصطلحات لم يعد لها وجود في قاموس غزة، هو الفقد عنوان كبير يشيّد كتب التاريخ ويعجزه! التاريخ! من سيكتب تاريخك يا غزة؟

ماذا أريد إذن من الكتابة في ظل الحرب؟ أريد أن أقرأ نصًّا يرتقي إلى حجم الفاجعة التي أثقلت قلب غزة، وأثقلتنا نحن المتفرجون ولا حول لنا ولا قوة، أريد لكل من يقرأ أن يتحسس دمه يسيل من الورق، أن يصاب برعشة الروح المنتزعة بقبضة همجية صهيونية مرتزقة، أريد له أن يبكي بحرارة الدموع المتدفقة من عينيّ ثكلى قُتل أحبابها أمام ناظريها، وبقيت تعاني برد الوحدة والجوع والقهر والعجز، أريد له أن يصرخ بصوت أبناء غزة النازحين، أن يسمع خفقان قلوبهم تحت أزيز الرصاص والقنابل، أريده وهو ينقل بصره بين الكلمات أن يتجول بين ركام غزة ويتساءل عن معالمها التي سوّيت بالأرض، عن أبراجها وشوارعها وحاراتها وبيوتها ومكتباتها ومراكزها ومعالمها التاريخية، أريد له أن يتذوق من الورق طعم الخبز الأبيض بعد غياب مئة وخمسين يومًا من الحرمان، أريد من الورق أن يتشقق كجلد صبية شابّة أبدلت الحرب جلدها الطريّ، وعرقها النّديّ، ورسمت خارطة النزوح في وجهها المنهك المتعب...

خبرت معنى الفقد في حياتي مرتين، الأولى: عندما وصلني خبر قتل أستاذي في مادة الفيزياء في الثانوية العامة وأنا طالبة سنة أولى في الجامعة، أذكر وقتها كم ذرفت من الدموع، وأذكر قسوة الخبر الذي أصابني في مقتل، وأظلم الرؤية أمام عينيّ، وخاصة أن أستاذي قتل طعنًا غدرًا، وأما الثانية: عندما فقدت والدي -رحمه الله- وأنا البعيدة عنه، ولم أشبع من حضنه وعناقه كما يجب لفتاة اختصرت العالم كله في كف والدها التي أنبتت وردًا واخضرارًا دافئًا كلما قبّلتها، ورقصت فرحًا على إيقاع صوته المترنّم في نداء الروح، لكنها لم تتزود بأنفاسه الحانية كذخيرة للأيام القادمة... هم الآباء لا يعوضون.

ماذا سيعوّض في غزة العزة؟ الآباء؟ الأمهات؟ العشّاق؟ الأبناء؟ الأطفال؟ البيوت؟ المال؟ الذّكريات؟ ماذا يعوّض في غزة؟

منذ ذلك الحين بقيت عالقة في محطة الفقد بين الموت والحياة، أعبر بخطواتي الثابتة غمار الحياة وعيني عالقة في مرساة الماضي، تنظر للخلف تارة تحاول خلع ما تكدس من غبار الفقد فوق كاهلها، وتارة تنظر للأمام بعيون من فقدت لتستعذب الألم بحضرة طيفهم، تستأنس شبح الفقد الذي يهمس لها: هم أحياء عند ربهم يرزقون.

كلما كبرت، واتسعت الرؤية أكثر على مدى البصر المشرع على مشاهد الموت في فلسطين، كلما تعايشت مع ألمي، وتقلصت مشاعري الذاتية، ليتسع الشعور الجمعي بحجم الجرح، الذي ما عاد صالحًا للرتق، بحجم النكبة التي تتجدد يومًا بعد يوم، إلى أن تجددت بعد أحداث السابع من أكتوبر، فأصبحنا على غزة تشهد الجرح وتؤمن بالألم وترسم ملامحه، لسنا أنبياء لكننا المختارون، المقاومون، الصامدون، قل ربما غرباء نحاول تذكّر أسماءنا قبل أن نصبح أرقامًا يابسة، في معادلة خاسرة.

فلسطين ابتليت بالمعنى المغاير للخسارات، ووسمت بصور متجددة للفقد، ومعانٍ فقدت من المعاجم الإنسانية، فمصطلح الموت على سبيل المثال، مستحدث في فلسطين لا يشبهه موت! وإذا ما أردنا أن نبحث عن معانيه لا يسعفنا سوى معجم غزة الدّموي. جرّب أن تبحث فيه، ستجد لمعانيه أشكالًا لم تسمع بها من قبل؛ رجل مقيد تدوسه مجنزرة المحتل جيئة وذهابًا فتلتهم لحمه بعد أن تمزقه، صحافة تُقنص في الرأس لمجرد نقلها خبرًا عن همجية الغاصب. طفلة محتجزة بين الركام يقتلها الذعر قبل أن تقتلها قذيفة تهشم قلبها البريء، بعد أن تطمئن على أفراد عائلتها في قبضة الموت.... الطموح: أن تنتهي الحرب ولا تموت بيد همجية مرتزقة صهيونية، أن تحصل على طحين أبيض غير مغمّس بالدم، أن تتذوق خبزًا أبيض، أن تشرب مجرد ماء لا يهم مصدره حتى لا يقتلك الجفاف... المرأة: أنثى مجردة من ملابسها مغتصبة حليقة الرأس بفعل مرتزقة صهيونية ساديّة، زوجة فقدت زوجها وتوأميها اللذين انتظرتهما عشر سنوات لتنعم برؤيتهما، صحفيّ يشهد قتل أفراد عائلته على دفعات كوسيلة لردعه عن عين الحقيقة، جدّة ثابتة كوتد خيمة تحمل مفتاح بيتها، وتمسح دمعة خدّها بحطتها الشاهدة على نكبتين وجرحين ونزوحين، لكنها مع ذلك تصرّ على الصمود... الجوع: طفلة من ذوي الاحتياجات الخاصة تنهش أصابعها من فرط الجوع، هياكل أطفال غائرة في فوهة الحرب، حسناء تفقد كل مقومات الحياة الباذخة التي امتلكتها سابقًا لكنّها تحتفظ بابتسامتها وهي تعدّ الطعام يوميّا للنازحين...

أريد من كتّاب غزة أن يكتبوا نصوصًا تحرّم النّسيان على قارئيها، نصوصًا تصوّر وجه الضحية بموتها الباذخ المترع بالظلم، نصوصًا تحدّق عيناها في عينيّ مغتصبها، فتودعه مصحًا عقليًا، يهذي باسمها ما تبقى من عمره، أريد نصوصًا توقظ ضحايا؛ لتتلبس قرّاءها، فتجرّ ظلالها شعوبًا غفيرة تنادي باسم غزة، فتاة البحر تبحث عن عشاقها لتنهض عنقاء من رماد الموت...

سماح/خليفة