عيد فؤاد يكتب: الساعات الأخيرة قبل وداع الأستاذ ولقاء لم يتم


رحل عن دنيانا "الفانية" بدون استئذان، الإنسان والمعلم..القيمة والقامة، الأستاذ محمد الدسوقي مدير تحرير جريدة الأهرام السابق .
الرحيل كان مُوجعْ، والفقد غالٍ، وخصوصا أنه كان يحظى بحب واحترام الجميع، الكبير والصغير، فهو شخص نادرا ما يتكرر، حيث يجمع كافة الخصال الحميدة، فهو رمزا للأخلاق وعنوانا للأدب، وفي المهنية حدث ولا حرج، فهو واحدا من أهم رموز الصحافة المصرية خلال الربع قرن الأخير، أستاذ الأساتذة بمعنى الكلمة، مثقف، واع، موسوعة مهنية كبيرة، خبير في اللغة العربية، تجد لديه إجابة لأي سؤال يُطرح عليه في مجال المهنة، تخرج على يديه الكثير من الصحفيين المهرة، ومنهم من أصبحوا أعلاما في مؤسساتهم الصحفية المختلفة، القومية والحزبية والمستقلة، وأزعم ولله الحمد أني كنت واحدا من هؤلاء الذين نهلوا من علمه الغزير، وعملت بنصائحه، واسترشدت بآرائه المستنيرة التي كانت تزيل من أمامي الكثير من العقبات في مهنة عظيمة أفخر بانتمائي إليها .
الحق يُقال، الأستاذ محمد الدسوقي كان بالنسبة لي بمثابة الأخ الأكبر، والقيمة والقامة الصحفية الكبيرة الذي كنت أعتز به جدا، فكان خير ناصح، في الكثير من أمور المهنة بصفة خاصة والحياة بصفة عامة، وتشهد على ذلك كريمته الغالية، الإبنة العزيزة والصحفية "الشاطرة" سارة محمد الدسوقي التي تعمل تحت رئاستي بمؤسستي الصحفية .
الأستاذ.. كنت أشعر بآلامه النفسية أكثر من آلامه الجسدية، وتحديدا في الآونة الأخيرة، حيث كنت أحاول جاهدا التخفيف عنه من خلال مكالماتنا الهاتفية والتي لم تكن تزيد عن العشرين دقيقة، بينما في الأيام العادية كانت تصل مكالماتنا أحيانا إلى الساعة .
القامة الصحفية الكبيرة كان يكتنفه الحزن في محنته المرضية الأخيرة والتي اضطر على إثرها التردد على إحدى المستشفيات أكثر من مرة للاطمئنان على صحته، وقد كان يشكو لي من جحود بعض الأشخاص الذين ساندهم كثيرا وذلل من امامهم الكثير من المصاعب، بينما هم لم يردوا الجميل ولو باتصال هاتفي، على الرغم أنه صاحب أيادٍ بيضاء على الكثيرين منهم، بل كنت شاهد عيان على تدخله بقوة ومساهمة منه بصفة شخصية في حل مشاكل بعض الزملاء، حرصا منه على مستقبلهم، بدافع الأب، والمعلم .
وقبل رحيل الأستاذ بثمانية وأربعين ساعة ساقني القدر للقائه في مكتب الأستاذ محمد خراجة أمين صندوق نقابة الصحفيين بمبني مؤسسة الأهرام العريقة، حيث كنت متواجدا بنقابة الصحفيين وأجريت اتصالا هاتفيا بالأستاذ خراجة والذي رحب بي بشدة وقال لي حرفيا،" تعالى لي في الأهرام بالطابق الخامس، فيه حد عزيز عليك وبيحبك هتسعد لما تشوفه"، ولم يبلغني من هو، وعلى الفور توجهت مسرعا إلى الأستاذ خراجة في مكتبه فوجدت الأستاذ محمد الدسوقي جالسا على المكتب المجاور له، مع تواجد بعض الزملاء أثناء زيارتي له، وصافحت الجميع بمن فيهم الأستاذ محمد الدسوقي، والذي رحب بي بحرارة كما هي عادته في كافة لقاءاتي معه، واطمأن عليّ، ثم قرر التوجه إلى مكتبه وطالبني بزيارته في مكتبه واحتساء الشاي معه، إلا أن ارتباطي ببرنامح "إحنا معاك" على الهواء في الفترة المفتوحة على إذاعة القاهرة الكبرى والذي كان على وشك أن يبدأ بعد نصف ساعة من لقائي معه في مكتب الأستاذ محمد خراجة حال دون زيارته، ولكن قبل مغادرتي المكان، وعدته أنني فور الانتهاء من اللقاء الإذاعي الذي يبدأ الساعة الثالثة وينتهي الرابعة والنصف عصرا سأعود لزيارته في مكتبه، ولكن القدر لم يمهلني للقائه مرة أخرى، حيث كان قد غادر المؤسسة عائدا إلى منزله وأنا بدوري توجهت إلى نقابة الصحفيين مرة أخرى، وكان لقاء الوداع الأخير دون أن أعلم، حيث صُدمت بعد ذلك عندما علمت في اليوم التالي مباشرة بنبأ رحيله من خلال كتابة إحدى الزميلات على جروب "الواتس آب" الخاص بمؤسستنا الصحفية بالنبأ الحزين، الذي آلمنا جميعا وتجرعنا مرارة فقد وفراق أغلى الأحبة.
والشيئ بالشيء يُذكر فقد لفت نظري أثناء تواجدي في القاعة رقم 2 في مسجد الحامدية الشاذلية الملاصق لنادي الزمالك بصحبة العديد من زملائي من أجل تقديم واجب العزاء أمس السبت في الفقيد الراحل مع باقي الأسرة الصحفية من مختلف المؤسسات، ومشاطرة أبنائه في مصابهم الجلل تواجد العديد من القامات الصحفية الكبيرة التي اكتظت بهم القاعة وكذلك الكثيرين من جيل الوسط والشباب من الصحفيين الذين حرصوا على تأدية واجب العزاء، وإن دل على شيء فإنما يدل على الحب الكبير الذي كان يتمتع به الأستاذ الراحل من قبل أبنائه وزملاءه الصحفيين ..رحم الله القيمة والقامة والعلامة المضيئة في الصحافة المصرية والعربية الأستاذ محمد الدسوقي وغفر له وأسكنه فسيح جناته وألهم أسرته ومحبيه الصبر والسلوان.