أيمن سلامة :العدالة لا تُجزأ ... عندما تضعف المبادئ الإنسانية أمام المصالح السياسية
النهار نيوزفي وقتٍ حساس ومليء بالتحديات على الساحة الدولية، نجد أنفسنا أمام معضلة معقدة تتعلق بمبادئ العدالة الإنسانية والمساءلة الدولية. القضية المطروحة لا تتعلق فقط بشخصيات سياسية أو قضايا معزولة، بل هي صراع بين القانون والمصالح السياسية، وحالة اختبار لصدق الالتزام بمبادئ العدالة العالمية.
منذ أن أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أمرًا بالقبض على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وعدد من المسؤولين الإسرائيليين، كانت ردود الأفعال الدولية تتراوح بين الدعم والتحدي. دول مثل الأرجنتين، بالإضافة إلى فرنسا والمجر، قد أعلنت مؤخرا أنها لن تمتثل لأوامر المحكمة الجنائية الدولية.
هذه المواقف تمثل خطوة مهمة في السياق الدولي، لأن الدول التي تراجعت عن الالتزام بالأوامر تمثل أحيانًا جزءًا من "العالم الغربي" الذي كان يُفترض به أن يكون حاميًا للمبادئ الإنسانية والقيم التي تأسس عليها النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية.
هذه الخطوات تثير تساؤلات حول مصداقية وفعالية المحكمة الجنائية الدولية. فقد كانت المحكمة تأمل في أن تلعب دورًا محوريًا في محاكمة مرتكبي الجرائم الخطيرة مثل الإبادة الجماعية وجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية. ولكن عندما تصبح المحكمة عرضة لتهديدات سياسية من قبل دول كبرى، مثل الولايات المتحدة، فإنها تواجه تحديات كبيرة في الحفاظ على مصداقيتها وفعاليتها.
الرئيس الأمريكي جو بايدن، في رسالته الموجهة إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، اعتبر أن محاكمة المسؤولين الإسرائيليين تمثل خطوة غير مقبولة، وهو ما يعكس تقويضًا للمبادئ التي كانت المحكمة تهدف لتحقيقها، وخاصة في مجال العدالة الدولية.
إن التراجع عن المبادئ الإنسانية، الذي يظهر في هذا السياق، لا يقتصر على القضية الخاصة بإسرائيل فقط، بل يتجاوزها ليشمل العلاقة بين العدالة والمصالح السياسية. إذا كانت المحكمة الجنائية الدولية غير قادرة على محاكمة المسؤولين في الدول التي تتمتع بدعم سياسي واقتصادي كبير، فإنها تصبح أكثر عرضة لأن تُعتبر أداة ضعيفة أو مجرد أداة رمزية في عالم مليء بالتحديات الجيوسياسية.
في ظل هذه المواقف، لا يمكن للمرء إلا أن يشعر بالقلق بشأن تقويض العدالة الإنسانية وعودة السياسة إلى الساحة الدولية بطريقة غير عادلة. إنَّ تجاهل العدالة من قبل دول كبرى، سواء عبر الضغوط السياسية أو الاقتصادية، يجعل من الصعب على الدول الأقل نفوذًا أن تثق في المؤسسات الدولية، ويؤدي إلى تآكل المصداقية العالمية للعدالة.
في هذا السياق، فإنَّ رسالة الرئيس الأمريكي بايدن تمثل تحديًا واضحًا للمبادئ التي تأسست عليها المحكمة الجنائية الدولية. هذا الموقف يسلط الضوء على فجوة كبيرة بين ما يُعلن من مبادئ عالمية وما يتم تطبيقه في الواقع الدولي، حيث تصبح المصالح السياسية أكثر وزنًا من العدالة الإنسانية.
كما أن هذا التراجع عن الالتزام بالمبادئ الإنسانية لا يقتصر على المحكمة الجنائية الدولية فقط، بل يعكس حالة أوسع من الانحدار الأخلاقي والسياسي في النظام الدولي. نحن أمام اختبار حقيقي لمصداقية المؤسسات الدولية، والقدرة على تحقيق العدالة الحقيقية في مواجهة التحديات الكبيرة التي تفرضها السياسة العالمية.
وفي هذا الصدد، نقتبس قولًا مأثورًا من الحكيم العربي: "إنما الأمم الأخلاق ما بقيت، فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا". هذا القول يعكس حقيقة أن العدالة والمبادئ الإنسانية لا يمكن أن تظل قائمة إذا فقدنا احترامنا للأخلاق والمبادئ التي تشكل أساس النظام الدولي.