أيمن سلامة : نتنياهو بين مطرقة العدالة الدولية وسندان العزلة الدبلوماسية
النهار نيوزفي سابقة قد تشكل تحولًا جذريًا في ميزان العدالة الدولية، وجد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نيتنياهو نفسه محاصرًا، ليس فقط بفضائح الفساد التي تطارده في الداخل، بل أيضًا بمذكرة اعتقال دولية صدرت عن المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، الهيئة المستقلة التي باتت رمزًا للحياد والشجاعة في وجه الضغوط السياسية العالمية.
لم يكن صدور هذه المذكرة مجرد إجراء قانوني، بل رسالة واضحة للعالم بأن لا أحد فوق القانون، وأن الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية أو جرائم الحرب لا تسقط بالتقادم أو تُغفل بسبب المنصب السياسي. وقد جاء التأكيد الصريح من قبل السيد جوزيب بوريل، منسق العلاقات الخارجية للاتحاد الأوروبي، ليعزز من ثقل هذا القرار. أشار بوريل إلى أن دول الاتحاد الأوروبي ملزمة قانونيًا بالتعاون مع المحكمة بموجب نظام روما الأساسي، مما يعني أن أي زيارة يقوم بها نيتنياهو إلى هذه الدول قد تنتهي به وراء القضبان.
ولم يكن هذا الالتزام الأوروبي مجرد تصريح دبلوماسي عابر. فقد أكدت دول رئيسية في الاتحاد الأوروبي، مثل إيطاليا وبريطانيا وهولندا، على لسان مسؤولين رفيعي المستوى أنها ستلتزم باعتقال نيتنياهو إذا وطأت قدمه أراضيها. هذه التصريحات الفردية، التي تعكس التزامًا أخلاقيًا وقانونيًا، أضافت مزيدًا من العزلة السياسية على نيتنياهو، الذي بات يواجه عالماً يرى فيه شخصية غير مرحب بها.
في 21 نوفمبر، أثبتت المحكمة الجنائية الدولية أنها ليست مجرد هيئة قانونية، بل قوة أخلاقية لا تنحني أمام التهديدات، حتى لو كانت صادرة عن قوى عظمى أو حلفاء إسرائيل التقليديين. كان هذا الموقف بمثابة صفعة لمن يحاول تقويض العدالة الدولية أو تسييسها، ورسالة واضحة بأن المحكمة لا تخضع للمساومات ولا تخشى تبعات قراراتها.
نيتنياهو أمام مفترق طرق
بالتوازي مع هذه التطورات الدولية، يجد نيتنياهو نفسه غارقًا في مستنقع قضايا الفساد التي تُلاحقه داخل إسرائيل، حيث تتزايد الأصوات المطالبة بمحاسبته. وبينما يدّعي أنه حامي مصالح إسرائيل وأمنها، فإن الواقع يشير إلى أن استمراره في السلطة يسبب ضررًا بالغًا لصورة الدولة على الساحة الدولية، ويزيد من عزلتها السياسية.
إن كان نيتنياهو رجل دولة بحق، فعليه أن يواجه الحقيقة المرة: العدالة لن تتوقف عند حدود إسرائيل. قد يكون الحل الوحيد المتبقي أمامه هو البقاء داخل إسرائيل، حيث يلاحقه القضاء الداخلي في قضايا الفساد، عوضًا عن مواجهة احتمال اعتقاله دوليًا بتهم أشد خطورة.
دلالات العزلة الدولية
لم تكن مذكرة الاعتقال بحق نيتنياهو مجرد إجراء قانوني، بل جاءت لتكشف عن ضعف المظلة الدبلوماسية التي طالما احتمت بها إسرائيل. الدول التي كانت تدعم إسرائيل دون شروط بدأت تعيد النظر في مواقفها، لا سيما بعد تزايد الأدلة على الانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان. حتى حلفاء إسرائيل التاريخيين يجدون صعوبة في تبرير استمرار دعمهم لشخص يواجه اتهامات بهذا الحجم.
وفي ظل هذا المشهد، بات واضحًا أن نيتنياهو لم يعد يمثل عبئًا على إسرائيل فقط، بل أصبح رمزًا للانقسام والعزلة على الساحة الدولية. وعوضًا عن محاولة الدفاع عن نفسه أمام هذا الطوفان من الاتهامات، يواصل اتباع سياسات الهروب إلى الأمام، متجاهلاً التبعات القانونية والسياسية التي تحاصره.
شجاعة المحكمة الجنائية الدولية
ما يميز هذه اللحظة التاريخية هو الجرأة التي أبدتها المحكمة الجنائية الدولية في مواجهة تحديات ضخمة. لم تكتفِ المحكمة بإصدار مذكرة اعتقال، بل وجهت رسالة قوية إلى العالم مفادها أن العدالة الدولية ليست رهينة بيد القوى الكبرى، وأن انتهاكات القانون الدولي لن تمر دون عقاب، بغض النظر عن مكانة مرتكبيها.
هذه الخطوة الشجاعة قد تكون البداية لتغيير حقيقي في كيفية التعامل مع الجرائم الدولية، حيث يصبح أي قائد أو مسؤول يدان بجرائم جسيمة عرضة للمساءلة، دون أن توفر له منصبه السياسي أي حصانة.
نهاية رجل دولة أم بداية الحساب؟
بات نيتنياهو أمام خيارات محدودة للغاية: إما أن يبقى داخل إسرائيل، محاصرًا بقضايا الفساد الداخلية، أو يواجه الحقيقة المرّة ويعترف بأن عهده قد انتهى. وبينما يحاول التمسك بالسلطة بأي ثمن، فإن العدالة الدولية تتقدم بخطى ثابتة لتذكّره وتذكّر العالم بأن القانون هو الفيصل، وأن حقوق الضحايا لا يمكن تجاهلها أو التلاعب بها.
إذا كان نيتنياهو يؤمن حقًا بدوره كرجل دولة، فعليه أن يتخذ القرار الشجاع بالانسحاب من الحياة السياسية، وتسليم نفسه للعدالة الدولية. فالعالم لم يعد يتسامح مع القادة الذين يختبئون وراء الحصانة السياسية، والرسالة التي بعثتها المحكمة الجنائية الدولية في 21 نوفمبر ليست إلا البداية.
لقد حان الوقت لنيتنياهو، ولإسرائيل بأسرها، أن تواجه الحقيقة: لا سلام بدون عدالة، ولا مستقبل بدون مساءلة