الخميس 14 نوفمبر 2024 11:29 مـ
النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز

رئيس مجلس الإدارة د. يحيى عبد القادر عبد الله

رئيس التحرير جودة أبو النور

المقالات

أيمن سلامة : المحاسبة الدولية لمرتكربي الجرائم الدولية دون تمييز

النهار نيوز

تمثل الجرائم الدولية مثل الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية تهديدًا خطيرًا للبشرية جمعاء، فهي ليست مجرد جرائم تؤذي الأفراد، بل هي أفعال تهدد الأسس التي تقوم عليها المجتمعات ؛ ولهذا السبب، بذلت جهود كبيرة على مر التاريخ لتعزيز المساءلة عن هذه الجرائم، خاصة عبر محاكمات دولية مثل محاكمات نورمبرج، والمحكمة الجنائية الدولية، والمحكمة الخاصة بيوغوسلافيا السابقة. وقد جاءت هذه المحاكمات لتؤكد مبدأً جوهريًا في القانون الدولي: هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم، ولا يمكن للمرتكبين التهرب من المسؤولية عبر الحصانة الوظيفية.

تعتبر محاكمات نورمبرج نقطة الانطلاق نحو المساءلة القانونية عن الجرائم الدولية. فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، عقدت هذه المحاكمات لمحاسبة المسؤولين الألمان عن الجرائم التي ارتكبت بحق ملايين المدنيين، بدءًا بجريمة الإبادة الجماعية إلى جرائم الحرب التي شملت الاعتداءات على المدنيين وأسرى الحرب.

لأول مرة، وجدت البشرية نفسها أمام نظام قضائي دولي يحاسب الأفراد، بما في ذلك قادة الدول والجنرالات، على أعمال تتعدى الحدود الوطنية وتمس الضمير الإنساني. وقد ساعدت محاكمات نورمبرج في ترسيخ مفهوم أن الجرائم الجسيمة ضد الإنسانية تستدعي المساءلة بغض النظر عن المناصب أو المواقع الوظيفية.

استنادًا إلى هذا الإرث، تأسست المحكمة الجنائية الدولية عام 2002 كأول محكمة دائمة تختص بمحاكمة الأفراد على الجرائم الدولية، بما في ذلك الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية. ورغم أنها تواجه تحديات قانونية وسياسية، إلا أن المحكمة تسعى لتكون عنصرًا رئيسيًا في الردع من خلال التأكيد على أن كل من يرتكب جرائم تهدد الإنسانية سيكون عرضة للمحاسبة، مهما كان منصبه. المحكمة تهدف أيضًا إلى توفير العدالة للضحايا وتعويضهم عن الأضرار التي لحقت بهم، مع التركيز على خلق ثقافة المساءلة التي تحارب ثقافة الإفلات من العقاب التي سادت في كثير من النزاعات.

إضافة إلى المحكمة الجنائية الدولية، أُنشئت محاكم مؤقتة للنظر في الجرائم التي ارتكبت في مناطق محددة، مثل المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، التي تأسست في تسعينيات القرن الماضي لمحاكمة مرتكبي الجرائم في نزاعات البلقان. المحكمة الخاصة بيوغوسلافيا السابقة لعبت دورًا مهمًا في تقديم الجناة إلى العدالة، ووضعت سوابق قانونية مهمة تتعلق بمفهوم الجرائم ضد الإنسانية، ووسعت نطاق العدالة ليشمل محاسبة المسؤولين العسكريين والسياسيين، وبالتالي ساعدت في رسم معايير دولية لمحاسبة الأفراد على الجرائم الكبرى.

بجانب مسألة المساءلة، تأتي أهمية حقوق الضحايا في هذا السياق، فالضحايا ليسوا مجرد أرقام بل هم أفراد وأسر تعاني من آثار طويلة الأمد بسبب الجرائم التي ارتكبت ضدهم. وتوفير العدالة للضحايا يمثل جزءًا أساسيًا من أي محاكمة دولية، حيث تسعى المحاكم الدولية إلى تحقيق الإنصاف لهم، عبر تعويضهم وضمان دعمهم نفسيًا واجتماعيًا. هذا الاعتراف بحقوق الضحايا يضيف بُعدًا إنسانيًا للقانون الدولي ويعزز الثقة في العدالة الدولية.

الردع أيضًا يمثل ركنًا أساسيًا في مكافحة الجرائم الدولية. عندما يرى المجتمع الدولي أن المحاكم الدولية تعاقب من يرتكبون جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، فإن هذا يرسل رسالة واضحة بأن العالم لن يتسامح مع انتهاكات حقوق الإنسان. الردع القانوني يهدف إلى منع تكرار الجرائم الدولية، وإظهار أن كل من يفكر في ارتكاب مثل هذه الجرائم لن يتمكن من الإفلات من العقاب. من خلال تعزيز المساءلة، يعمل القانون الدولي على حماية حقوق الإنسان وردع القادة العسكريين والسياسيين من التفكير في انتهاك هذه الحقوق.

ورغم أهمية هذه المحاكم، إلا أنها تواجه تحديات عدة، من بينها التحديات السياسية التي تجعل بعض الدول تمتنع عن التعاون الكامل، أو ترفض الخضوع لاختصاص المحكمة الجنائية الدولية، كما أن المحاكم قد لا تتمكن من الوصول إلى الجناة في بعض الأحيان لأسباب سياسية أو لوجستية. ورغم هذه التحديات، تظل المحاكم الدولية رمزًا للعدالة ووسيلةً للمساءلة، وتسهم في خلق نظام قانوني دولي يعزز قيم حقوق الإنسان ويضع حداً للإفلات من العقاب.

في الختام، تبقى العدالة الدولية وسيلة مهمة لتحقيق السلام والأمن الدوليين، فالجرائم التي تهدد الإنسانية لا يجب أن تُنسى أو تُغفل، بل يجب أن تواجه بالقانون والإصرار على تحقيق الإنصاف للضحايا. المحاكمات الدولية في نورمبرج، ويوغوسلافيا السابقة، والمحكمة الجنائية الدولية، كلها تمثل خطوات أساسية في رحلة البشرية نحو مجتمع دولي أكثر عدلًا، يُحاسب فيه كل من يعتدي على الإنسانية، بغض النظر عن هويته أو منصبه.